استراتيجية الخروج من العراق
كان شهر أبريل المنصرم، الأسوأ على الإطلاق بالنسبة لإدارة بوش في حربها على العراق. فقد كانت تطورات إساءة معاملة السجناء في سجن أبو غريب، والكشف عن حقيقة أن هناك عددا قليلا جدا من العراقيين المشاركين في القتال مع قوات التحالف الدولي هناك، جد مزعجة ومقلقة. هذا ولا يزال العبء الأكبر من عمليات القتال وما يستتبعه من سقوط ضحايا بين الجنود المقاتلين يقع على عاتق التحالف، سيما الجنود الأميركيين. ومما لا شك فيه أن هذا الوضع لا يمكنه أن يستمر هكذا دون نهاية. فالمواطنون الأميركيون لن يستطيعوا تحمل حمامات الدم هذه وما يرتبط بها من استنزاف للموارد المالية الأميركية إلا في حال شعورهم وتأكدهم من أن كل تلك التضحيات تصب في خدمة المصالح القومية العليا. وهذه هي مسؤولية رئيس البلاد في أن يؤكد لهم أن استمرار الاحتلال الأميركي للعراق يخدم هذه الأهداف، وأن الجزء الأعظم من القتال هناك، يقع الآن على المقاتلين العراقيين أنفسهم.
لكن الواقع أن لإدارة بوش الكثير مما تقلق بشأنه لدى استخدامنا لهذين المعيارين في الحكم على مبررات وجدوى استمرار احتلالنا للعراق. السؤال الذي يطرح هنا هو: إلى أي مدى يخدم استمرار الاحتلال المصالح القومية الأميركية؟ وسؤال فرعي آخر: ما هي المخاطر التي ستترتب على انسحابنا من العراق؟ الملاحظ أنه من الصعب جدا أن يلحظ المرء على امتداد منطقة الشرق الأوسط بأسرها أن أميركا قد أضحت أكثر أمنا، وأن مصالحها مخدومة كما ينبغي، منذ إعلانها الحرب الأخيرة على العراق. فما العمليات الإرهابية التي جرى تنفيذها في كل من المملكة العربية السعودية وتركيا، مقترنة بإحباط هجوم كيماوي خطير في الأردن، سوى تأكيد على وجود بيئة متنامية الخطر ومعادية بحكم طبيعتها وتوجهاتها للأميركيين والغربيين في المنطقة بوجه عام.
ومن المثير للسخرية أن هناك دولا في المنطقة قوي عودها ونفوذها، وبدت أكثر تصميما وعزما خلال العام الماضي، مثل إيران. فالقادة الإيرانيون يشيرون إلى الولايات المتحدة بعبارة "الأسد الجريح". وهم على دراية كبيرة بمدى عظم تأثيرهم على العراق. وفيما لو أرادوا إيذاء الولايات المتحدة وتعقيد مهمتها هناك، فإنهم لا شك قادرون على زيادة الطين بلة.
صحيح أن هناك نتائج إيجابية لإسقاط الولايات المتحدة لنظام صدام حسين، وما تلاه من إعلان لرغبة واشنطن في إحداث تحول ديمقراطي عميق في منطقة الشرق الأوسط بأسرها. وقد وجدت هذه الدعوى صدى وهوى لها في نفوس وعقول بعض الإصلاحيين العرب. غير أنها لم تلق دعما فعليا حتى الآن على الصعيد المحلي الإقليمي. وربما يعود السبب وراء ذلك إلى حد ما، لعدم إظهار واشنطن أي قدر من الحساسية في التعامل مع قضايا المنطقة ونزاعاتها. ويصدق هذا على نحو خاص في تعامل واشنطن مع النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
هناك جانب آخر هو عدد الضحايا من الجنود الأميركيين في العراق، وهو عدد كبير دون شك. والسؤال الذي لابد من إثارته: لماذا يتعين على الجنود الأميركيين الشبان أن يقاتلوا ويموتوا في كل من الفلوجة والنجف وغيرهما، إن كان العراقيون أنفسهم يرفضون القتال، بل ويسلم بعضهم أسلحته للمقاتلين ضد قوات التحالف هناك؟ يذكر هنا أن حرية العراقيين قد سلمت لهم على طبق من ذهب، وأنها جاءتهم منساقة إثر الضربة الخاطفة التي وجهتها القوات الأميركية لنظام صدام حسين، وإطاحتها به سريعا دون مشاركة من جانب العراقيين أصحاب المصلحة الأولى. وفي عيون الكثيرين من الأميركيين، فإن حرية العراقيين قد منحت لهم، إلا أنهم لا يريدون أن يقاتلوا من أجلها. ولهذا السبب، فإن هناك الكثير من اللغط في واشنطن حول ضرورة مغادرة العراق، على رغم قناعة البعض بأن في انسحاب كهذا نتائج وعواقب على درجة من الخطورة بالنسبة للمصالح الأميركية في المنطقة، فضلا عن المخاطر التي تواجهها المنطقة نفسها. أول هذه المخاطر إمكان انزلاق العراق إلى حرب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر. ومن الاحتمالات السيئة أيضا، حدوث تدخل عسكري من قبل الدول المجاورة للعراق مثل تركيا وسوريا والمملكة العربية السعودية، ومنظمات الجهاديين والمتطرفين. وفيما لو حدث ذلك، فإن الأوضاع في العراق- والمنطقة بأسرها- ستمضي إلى أسوأ سيناريوهاتها الممكنة. ويغدو محتملا إذا، أن يتوقف إنتاج النفط في العراق، مما سينجم عنه حدوث ارتفاع جنوني في أسواق النفط العالمية. وليس مستبعدا أن يظهر قائد عراقي جديد معاد للغرب، وعلى صلة قوية بإيران، إلى جانب سيادة مناخ عام معاد للولايات المتحدة والغرب. وعليه فإنه لابد من أن تكون لواشنطن استراتيجية واضحة للخروج من العراق. ولا يعني ذلك أن تخرج كيفما اتفق وبأسرع ما يمكن. بل يعني أن تعطي العراقيين دورهم في الدفاع عن حريتهم، وأن تبقي هي على جنودها كجنود احتياط لحفظ حدود العراق، وحمايتها من أي تدخل أجنبي محتمل من دول الجوار.