لازال صوته الجهوري، بلغة شاعرية فرنسية، يرنُّ في أذني عبر العقود من الـزمن دون أن يخفت. كان محامياً ممثلاً لبلده الأفريقي الفقير في اجتماعات منظمة الصحة العالمية في جنيف إبان السبعينيات من القرن الماضي. سنة بعد سنة ظل يصرخ في نهاية خطبه البليغة:"إننا في بلادي شديدو الحساسية، إلى حد الهوس، لقضايا العدالة".
منذ ذلك الحين وأنا مسكون بهاجس هذه القيمة الأخلاقية، هذه الفضيلة الربانية، وبمكانتها في سُلًّم القيم الكبرى. وفي الوقت نفسه مفجوع بغيابها في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث الحساسية تجاهها ينبغي أن تكون أشد وأعمق. فقول الله تعالى عن العدالة واضح:"إن الله يأمر بالعدل" وقوله "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" ويقول سبحانه "وإذا قلتم فاعدلوا" ومقت الله الظلم بنفس الوضوح:"وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا" وفي آية أخرى "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". إن كل ما في القرآن الكريم، تحكمه ثلاث كلمات هي العدل والقسطاس والميزان. إضافة إلى ذلك عنيت الأحاديث النبوية كما عنى الفقه الإسلامي بهذه القيمة بشكل كبير. ومع ذلك عانت البلدان العربية والإسلامية الأمرَّين عبر قرون طويلة من الاستبداد الذي أنتج كل أنواع الظلم والقهر.
من هنا الحاجة إلى إعادة طرح موضوع العدالة، وخصوصاً أن عصرنا يتحدث عن قيم كبرى من مثل الحرية والمساواة والديمقراطية دون أن يقرنها بالعدالة كقيمة مركزية حاكمة يدور كل شيء من حولها. وهو ما سيكون موضوع عدة حلقات، دعنا اليوم نُذكِّر أنفسنا ببضعة مداخل أساسية:
أولاً: العدالة ليست طبيعية في الإنسان ولا تُعطى. إنها نتيجة تفاعل مع البشر الآخرين وتأخذ معناها من خلال تلك العلاقة. فهي إذن قيمة اجتماعية تُحتم الالتزام الأخلاقي نحو حقوق الآخرين. وهذا يتطلب الانتصار على الغرائز وتنظيمها. ولذلك فإن ممارسة العدالة أمر صعب وشاق سواء مع النفس أو مع الآخرين. وهناك من يعتقد أن الإنسان لم يعرف معنى العدالة إلاً بعد أن مارس نقيضها، وهو الظلم، الذي يؤدي بدوره إلى الندم وتأنيب الضمير، وهو أمر لا يطيقه أكثر الناس.
ثانيا: أكثر من أي قيمة أخلاقية أخرى، تطرح العدالة على الإنسان إشكالية محتواها. ولذلك فإن قضايا العدل يجب أن تكون في شكل نصوص كاملة بحيث يرُجع إلى ما قبلها وما بعدها لتتضح الصورة ويختفي الغموض. ومن هنا عندما يكتفي كتبة السلاطين بذكر العناوين ويتجنبون المقدمات والاستنتاجات، فإنهم يتجنبون موضوع العدالة برمته.
ثالثا: العدالة لا ترتبط فقط بممارسة الجزاء والعقاب، وإنما تندمج اندماجاً شاملاً وعميقاً في موضوع المساواة. والمجتمعات التي تدَّعي أنها تقوم على مبادئ العدل لا تستطيع التهرب من موضوع المساواة. فدون حسم معنى المساواة والاتفاق على ما يحكمها ويضبط تطبيقها فإن الحديث عن وجود العدل محض هراء. عندما نتحدث عن أنظمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية دون حساسية مفرطة للعدالة فإننا نتحدث عن ماكينة تعمل دون أن تضبط حركتها جهة ما. إننا عند ذاك نُهيِّئ للفوضى وللطوفان.