كن ذا أثر
في الأسبوع الماضي، وأنا في طريقي إلى جزيرة دمونيك القريبة جداً من هايتي، والتي تعرضت لزلزال عنيف، كانت الطائرة التي استقلها ملأى برجال ونساء من أرجاء المعمورة هبوا لنجدة المنكوبين في الزلزال، يمثلون مؤسسات المجتمع المدني في مجتمعاتهم.
جلس بجانبي في الطائرة طبيب جاوز السبعين من عمره، ومعه عدد من الممرضين الشباب. وكان السؤال في ذهني عن دافعهم من هذا العمل، ما الذي يجعلهم يهجرون بلدانهم الآمنة كي يعيشوا مع أهل الأزمة محنتهم محاولين التخفيف عنهم كل في تخصصه. قلبت الأمور في ذهني حتى تجلت لي الصورة عن تربية ربما نفتقدها في الوطن العربي أسمها ترك الأثر.
كم منا سأل نفسه في يوم من الأيام، ما هو الأثر الذي سيتركه من خلفه عند وفاته، وكي نتدرب على هذا الأمر، أريد منك أيها القارئ الكريم أن تتحمل قسوتي قليلًا كي تجيب معي عن هذا السؤال، اسحب ورقة مما حولك ثم تخيل أنك قد انتقلت إلى جوار ربك هذه الساعة، وطلب منك أن تكتب نعيك فقلت: انتقل إلى رحمة ربه، ثم كتبت اسمك... وكتبت سنك، بعد سنوات من الحياة قضاها في أعمال... انتهى النعي. تُرى بماذا ستُعرف في الدنيا بعد أن تغادرها. إنه أمر عظيم أن يترك الإنسان من ورائه الأثر الطيب من بعده.
وكي يتمكن الإنسان من حسن اختيار أثره عليه أن يتخلى عن الصورة الضبابية، التي نعرفها نحن العرب تلك الصورة التي جعلت البعض يقسم الناس إلى بشر ذي نفع، وآخر يعيش على هامش التاريخ، وهناك من يردد مع القائلين: ليس لي حول ولا قوة، فأنا إنسان ضعيف لا أستطيع أن أعمل شيئاً، أو أترك ورائي أثراً إيجابياً، هذه الصورة وتلك الحيرة، هي ما جعلتنا نحن العرب اليوم من أقل الشعوب إنتاجية، فالدول إنما هي أفراد يعيشون مع بعض وكلما كان قانون الأثر واضحاً بينهم، كلما كانت دولتهم منتجة ومتقدمة، والعكس صحيح. فإذا اعتقد الإنسان أنه ليس بإمكانه أفضل مما هو عليه، جمد هذا الإنسان، وتخلف الوطن الذي يعيش عليه ذلك البشر.
لقد خلقنا الله تعالى لحكمة، ولا يوجد من هو مخلوق، كي يعيش ويفنى ثم يبلى وسوف يسألنا الله عن أثرنا في الدنيا، عندها فقط يندم غير المتحمس على أيام مضت من حياته كان بإمكانه أن يفعل أمراً إيجابياً لكنه تردد.
لا أطلب منكم فعل المستحيل لكنك بإمكانك أن تفعل الكثير لو غيرت تصورك عن نفسك أولًا ثم بحثت في قدراتك ثانياً وتخيرت مجال الإنجاز، الذي بإمكانك الولوج إليه كي تكون ذا أثر. وقد يبدأ الإنسان على مستوى عائلته، أو أصدقائه ووطنه كي ينطلق منه إلى العالمية. وكم نفخر نحن أهل الإمارات عندما نرى شبابنا في الهلال الأحمر الإماراتي، وقد هبوا لرفع الأزمة عن الناس حول المعمورة بما فيهم أهل هايتي، الذين كانت مساعدة أهل الإمارات لهم من أول المساعدات العالمية، التي وصلتهم مما جعل الصحف الأميركية تشيد بهذه المبادرة.
الهلال الأحمر الإماراتي وغيره من مؤسسات العمل المدني في الدولة بحاجة إلى من يريد أن يزكي عمره بالعمل التطوعي، والمبادرة لخدمة هذا الوطن والإنسانية من حولنا، وهنا أقول إنه ليس لأحدنا العذر بعد اليوم في أن يعيش على هامش الحياة، تطويه الأنانية القاتلة، ويردد نفسي نفسي ولاشيء غير ذلك، ومن هنا أقول لنا جميعا، فلنكتب نعينا، قبل أن يكتب عنا.