أصبح من البديهي أن عملية التسوية السياسية للصراع العربي- الإسرائيلي عامة والفلسطيني- الإسرائيلي خاصة تدور في حلقة مفرغة، فمفتاح التسوية بيد إسرائيل، لأنها هي التي تحتل الأرض، وتقيم المستوطنات عليها، وتسرق مياهها، وتسرع في عملية التهويد الكامل للقدس، وترفض من حيث المبدأ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم. كل هذا دونما رادع فلسطيني أو عربي عما تفعل، والقوة الوحيدة من الناحية النظرية التي تستطيع أن تضغط على إسرائيل كي تغير سلوكها هي الولايات المتحدة الأميركية، لكن هذه الأخيرة حتى وإن رغبت في ذلك لا تستطيع الإقدام عليه لاعتبارات بات تكرار الحديث عنها مملاً. أما المتغيران الفلسطيني والعربي في المعادلة فهما عاجزان عن أن يغيرا شيئاً فيها، سواءً بسبب الانقسام الفلسطيني الذي أضعف المفاوضين والمقاومين معاً، أو بسبب التمسك العربي بالخيار الاستراتيجي "الوحيد" دون تفكير في أسباب عقمه وسبل تفعيله إن كان هذا ممكناً، أو لنقل صراحة إن السبب الرئيسي في هذا الصدد إن عديداً من الدول العربية لم يعد يعتبر الصراع العربي-الإسرائيلي مصدر التهديد الرئيسي لأمنه، إن كان مصدر تهديد على الإطلاق، ومن هنا ينهار مبرر اهتمام هذه الدول بالصراع أصلاً وبجوهره المتمثل في القضية الفلسطينية. وعلى هذا الأساس تبدو الكتابة مجدداً عن عملية التسوية غير مجدية، ولكن تطرأ من حين لآخر متغيرات تؤكد صحة التحليل السابق لا بأس من التنبيه إليها. وفي الأسبوع الماضي حدث تطوران مهمان على الساحتين الإسرائيلية والأميركية يؤكدان هذا التحليل. أول المتغيرين هو ما أدلى به رئيس الحكومة الإسرائيلية بخصوص نية إسرائيل الاحتفاظ بقوات في غور الأردن، والثاني هو ما صرح به الرئيس الأميركي بخصوص مبالغة إدارته في تقدير فرص السلام في الشرق الأوسط، وكلا التطورين يؤكد على نحو قاطع نموذج الحلقة المفرغة لعملية التسوية: إسرائيل برفع سقف مطالبها، والولايات المتحدة بخفض سقف قدرتها على التأثير في هذه العملية. أما إسرائيل فقد صرح رئيس حكومتها في 20 يناير الجاري بأنه حتى في حال إحلال السلام فإن إسرائيل ستواصل فرض وجودها على الحدود الشرقية للدولة الفلسطينية (منطقة غور الأردن) بداعي "منع تهريب الأسلحة إلى الدولة الفلسطينية"، على أساس أن خبرة إسرائيل من حالتي لبنان وغزة تفيد بتهريب الأسلحة إليهما بعد انسحاب القوات الإسرائيلية منهما. وبعبارة أخرى فإن نتنياهو يريد الاحتفاظ بغور الأردن الذي تبلغ مساحته 28 في المئة من مساحة الضفة الغربية، فعن أي سلام يتحدث إذن؟ خاصة إذا أضفنا إلى ذلك مواقفه المعروفة من المستوطنات وتهويد القدس الشرقية وغيرهما من القضايا. وفيما يتعلق بالرئيس الأميركي فقد اعترف في مقابلة نشرتها مجلة "تايم" الأميركية في عددها الأخير بأنه بالغ في تقدير فرص السلام في الشرق الأوسط، وأضاف أن الإسرائيليين والفلسطينيين وجدوا أن "البيئة السياسية وطبيعة التحالفات أو الانقسامات داخل مجتمعاتهم بلغت درجة جعلت من الصعب عليهم البدء في حوارٍ مفيد". واعترف أوباما بعدم تمكن الإدارة الأميركية من تحقيق الانفراج الذي كانت ترغب فيه، مضيفاً أنه لو أن إدارته توقعت الصعوبات السياسية على الجانبين "لما رفعت التوقعات إلى هذه الدرجة". ولذلك يبدو ما نقله مبعوثه ميتشل للرئيس الفلسطيني عن التزام أوباما التام بالاستمرار في جهوده للتوصل إلى دولة فلسطينية مستقلة وتحقيق مبدأ الدولتين كلاماً فارغاً من أي مضمون حقيقي. وفي مواجهة هذا التدهور المتزايد يذكر للرئيس محمود عباس أنه ما زال متمسكاً بشرط وقف الاستيطان لبدء المفاوضات، غير أن تقدير موقفه بهذا الخصوص شيء وقياس فعاليته شيء آخر، فشرط وقف الاستيطان لن يتحقق بالتأكيد في ظل ميزان القوى الراهن، ولذا يبقى أمام الرئيس الفلسطيني بديلان لا ثالث لهما: إما أن ينصاع ولو بعد حين لضغوط استئناف المفاوضات دون تحقيق شروطه، وسيكون هذا استئنافاً بالغ السوء لعملية التفاوض، لأنه يستأنفها بتنازل عن شرط منطقي وضروري، وإما أن يواصل رفضه، وهنا سيواجه بمأزق سياسي من نوع آخر. وهو أنه لن تكون هناك مفاوضات أو وقف للاستيطان مما يعني استشراء عملية التآكل في الموقف الفلسطيني لحساب إسرائيل. ولذلك فإن عباس مطالب بالخروج من الحلقة المفرغة ببديل جديد يكون من شأنه تصحيح الخلل الراهن في ميزان القوى ولو نسبياً. ومع أن الجميع يعلم أنه يعارض خيار المقاومة المسلحة على نحو مطلق فإن البدائل مع ذلك عديدة أمامه: منها على سبيل المثال ما يتعلق باتجاه أكثر جدية نحو تجاوز الانقسام الفلسطيني الراهن، ومنها أيضاً ما يتعلق ببدائل المقاومة السلمية وعلى رأسها العصيان المدني وتكرار تجربة انتفاضة نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ومنها كذلك مزيد من الانفتاح على قوى السلام الحقيقية داخل إسرائيل وخارجها في محاولة لتفعيل الضغط الدولي والداخلي على صانع القرار الإسرائيلي. أما أن يتصور أحد أن استمرار الجولات والزيارات الخارجية بلا نهاية سيفضي إلى شيء فهذا هو العبث بعينه. ومن المؤكد أن عباس يعلم أن الجميع يخشى هذه البدائل السابقة، ولننظر مثلاً فيما كشفته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية من أن الرئيس الإسرائيلي وجه تحذيرات إلى عباس من عواقب عدم عودته إلى طاولة المفاوضات، وأفادت أنه نبَّه إلى أن استمرار الجمود السياسي قد يقود إلى انتفاضة فلسطينية جديدة، وأنه حذر عباس بقوله "إنك تلعب بالنار بإرجائك بدء المفاوضات"! أما الإدارة الأميركية فقد صرح ميتشل بأن العودة إلى المفاوضات أمر بالغ الأهمية إذا كان الفلسطينيون يريدون مساعدة واشنطن للتوصل إلى معاهدة سلام مع إسرائيل، ثم صعدت هذه الإدارة مواقفها بالقول القاطع إن "أي سبيل غير المفاوضات مع إسرائيل سيكون كارثة على الفلسطينيين". إلى أي حال وصلت عملية التسوية إذن؟ جمود لاشك فيه يدعمه مؤخراً تصعيد صفيق في المطالب الإسرائيلية، واعتراف أميركي خجول بضعف القدرة على التأثير في مسار التسوية، وعلى رغم هذا يعتبرون تمسك عباس بموقفه لعباً بالنار! وفاتحة لكارثة على الفلسطينيين! ناسين أو متناسين أن الكارثة قد حلت بالفلسطينيين منذ عقود، وأن التهديد بمزيد من الكوارث لا يمكن أن يعوَّل عليه في كبح انفجار قادم لا محالة.