رسالتي اليوم من كيب تاون، والوجود في صيف كيب تاون الحار الآن (يناير 2010) مهما كنت في زيارة علمية، لا يخلو من فرصة استمتاع وإثارة قد نحسد عليها. جنوب أفريقيا الآن حية بالجدل السياسي والاجتماعي، والحزبي، والكروي بما لا يخلو من طرافة. فنحن هنا على مرمى حجر من "لواندا" حيث "كأس أفريقيا" في أنجولا، وثمة تبادل "للانتقامات" و"تصفية الحسابات" قبل "كأس العالم" في جنوب أفريقيا في يونيو القادم. وكنت أتصور أن البلاد هنا ستكون ملغومة بأحاديث الكرة، كحدث عظيم في حياتها، وعلى نحو ما عرفناه في منطقتنا عن "معارك" و"غزوات" لا داعي لتذكرها، بينما كان أولى بجنوب أفريقيا أن تكون حية بـ"الأحداث" أكثر، بحكم أن الشعب هنا حرم مطولاً خلال النظام العنصري من وجوده في مثل هذه المواقع، كما أنهم كسبوا الكثير عقب "التحول" أوائل التسعينيات بانعقاد "الكأس الأفريقي"، والكونفدرالية عندهم بعد تكوين فريق "قومي" حقيقي هناك في إطار القفزة السياسية التي تمت. لكن لفت نظري تناول متحضر لهجوم من الإعلام البريطاني عن مدى "الأمن" في البلاد، وقيام شركة كبرى هناك بالإعلان عن "سترات واقية" للمسافرين لمتابعة المباريات... فلم يثر ذلك النزعات "القُطرية" أو "القومية" ضد بريطانيا "الغادرة"، وإنما قرأت استنكاراً مباشراً على سلوك الشركة وبعض الصحف لعدم تفهمهم لتطور إجراءات الأمن في جنوب أفريقيا...إلخ قد يكون وجودي حتى الآن في كيب تاون فقط، سبباً في عدم معرفتي بما يحدث في جوهانسبرج أو "جوبيرج" كما يدللونها، أو في ديربان على الساحل الشرقي، ولكن الصحف والتلفزيونات ما زال الكثير منها يتمتع بالصفة "القومية" مع خصوصيتها القديمة، ومع ذلك فلابد لزائر جنوب أفريقيا أن يعرف أن المدن الكبرى في هذه البلاد تشكل شبه عواصم مستقلة كثيراً. فأنت في كيب تاون، العاصمة البرلمانية والثقافية، وفي "ديربان" العاصمة الاقتصادية، وفي "جوهانسبرج" العاصمة السياسية، وفي "بريتوريا" العاصمة الدبلوماسية، وهذا كله بشكل حقيقي وليس رمزياً خلافاً لمعظم بلدان العالم كبيرها وصغيرها، ويمهد ذلك -بالضرورة- في فلسفة الحكم المحلي أساساً لقدر كبير من "الاستقلالية". ومن يرى حال "كيب تاون" نفسها وبها حكومة وبرلمان تسيطر عليها أحزاب الملونين والمستوطنين، مع استبعاد واضح لحزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، الحاكم الغالب في معظم الولايات العشر الأخرى، يعرف معنى الديمقراطية الحقيقي. ففي كيب تاون يشكل الملونون الأغلبية السياسية الأولى، يليهم البيض ثم يأتي وضع "الأفارقة" -والجميع هنا أفارقة في النهاية- رغم أغلبيتهم العددية. ومعنى ذلك أن العامل البشري أو الاجتماعي مثل الاقتصادي وغيره يشكل عنصراً له اعتباره في توزيع السلطة، ولا يستسلم أمام التسلط السياسي لهذه "القوة" أو تلك. ومن قبل فرض وضع المرأة في النضال السياسي نفسه كعامل في تمثيلها الحتمي بثلث البرلمان على الأقل، لأن دستور الحزب الحاكم نفسه يقر بالنصف! الطريف أن وضع المرأة هذا لم يؤثر كثيراً في وضع الرئيس "زوما" السياسي بعد زواجه للمرة الخامسة (وإن احتفظ بثلاثة فقط)، ويظهر في بعض المناسبات مع الثلاثة! بل ودهشت لظهوره وهو بزيه الرسمي المحافظ في بعض الصور، وكأن الأمر يبدو عادياً جداً... والطريف أنني عندما رحت أقلب الصفحات عن تاريخ قبائل "الزولو"، التي ينتمي إليها الرئيس "زوما" -وهي من أكبر القوى الاجتماعية- وجدت أن "الشاكا"، الإمبراطور المؤسس لمملكة الزولو في القرن الثامن عشر/التاسع عشر كان مزواجاً شهيراً إلى جانب جبروته في الحكم، وبنائه لامبراطورية شهيرة في التاريخ الأفريقي قبل أن يدمرها الاستيطان والاستعمار. وبمناسبة "الشاكا"وحفيده وتعدد الزوجات، لم يثر ذلك جدلاً سياسياً، بقدر ما راحت بعض الصحف تبحث عن "المظاهر الإسلامية" عند بعض الفئات الآسيوية والملونة التي تتعدد فيها حالات تعدد الزوجات، ولتجعل من ذلك مثاراً لسخرية واضحة، حيث لا تخلو ممارسات هذه الفئات من مظاهر مثيرة، في احتفالات تبدو استخفافاً بوضع الطائفة كله! ورغم كل هذه الزوايا في الحياة العامة في هذه البلاد، فإن القضايا السياسية لا تقل إثارة، وتعبيراً عن "الليبرالية" العالية التي يعترف الجميع أنها لا تتوازى بنفس القدر مع حظوظ العدالة الاجتماعية. ومن هنا تنشأ التمردات ومظاهر العنف، بل والدعوات الجديدة عند تأميم الثروة المعدنية، واقتسام الثروة وفق سياسة مخططة للعدل الاجتماعي... ويقوم الاتحاد العام للعمال بتحالف مع الحزب الشيوعي (وكلاهما في الحكم بنسب مرموقة)! بدفع هذه العناوين أمام الرئيس الذي كان قد اعتمد عليها أساساً في حملاته الانتخابية عند الرئيس السابق "تابو مبيكي". لكن المثير في الموقف هو دخول جناح الشباب في "المؤتمر الأفريقي" ضد هذا الحلف، بينما كان مقدراً أن يكون الشباب هم الأولى بقيادة جناح "التطرف" إن جاز التعبير... ولذا يخاف البعض أن تتغلب القضايا الشخصية على الاجتماعية والسياسية على السواء. كان ظهور "ويني مانديلا" إلى جانب زعيم الشباب -كعادتها- تأكيداً لهذا الارتباك بأكثر منه ترتيبا جيدا للأوراق، يتطلبه إنقاذ الموقف الاجتماعي الذي يهدده "العنف الاجتماعي بالأساس.