لم يفتأ المفكر الجزائري "محمد أركون" منذ عقود يدعو إلى استبدال "الإسلاميات الأرثوذوكسية" بمنهج جديد أطلق عليه تارة مقولة "الإسلاميات المطبقة"، وتارة أخرى "نقد العقل الإسلامي". وعلى الرغم من اختلاف السياق النظري للمقولتين، فإن"أركون" يرادف بين العبارتين، اللتين يعني بهما تطبيق مناهج العلوم الإنسانية على النص الديني والمدونة التراثية المتفرعة منه. بيد أن "أركون" إذ يقدم برنامجاً طموحا لتنفيذ مشروعه، يكتفي عادة ببلورة المفاهيم وتقديم المقترحات، دون تنفيذ عملي أو تجسيد تطبيقي. والمشكل المنهجي الكبير الذي تطرحه مقاربة "أركون" هو افتراض القطيعة بين النص موضوع الدرس (النص الديني) ومناهج التأويل المطبقة عليه (العلوم الإنسانية النابذة للمسلمات الغيبية والسرديات الخارقة). فهذا الحكم لا يستقيم لسببين رئيسيين، يتعلق أولهما بالتداخل النظري والقيمي بين النص الديني والعدة التأويلية التي تتناوله، ويتعلق ثانيهما بطبيعة المناهج التأويلية ذاتها التي يحملها "أركون" مضامين تعبوية بحيث تكون بديلاً عن النص الديني نفسه. أما العامل الأول، فيبدو بارزاً في مسار الفلسفة الغربية التي كانت في كامل محطاتها صياغات عقلانية للمواقف اللاهوتية. فمبدأ الذاتية الذي هو أرضية الحداثة الغربية يرجع بوضوح للتقليد اللاهوتي المسيحي، على الرغم من الصورة السائدة بأن فلسفة ديكارت شكلت قطيعة مع الميتافيزيقا الوسيطة. ذلك أن لاهوت التجسد (أي تجسد الرب في شخص المسيح)، يؤول بداهة إلى الاستبطان، وتحويل الفكر إلى دائرة الوعي المتمحور حول نفسه. فنموذج الحقيقة كتطابق بين الوعي والموضوع لا يفهم خارج هذا التأسيس اللاهوتي، كما أن هذا التطابق كما أدرك "ديكارت" نفسه يقتضي ضمانة إلهية دائمة. ولا يشذ التصور الكانطي عن هذا المنطلق، باعتباره أناط مبدأ الحرية بالمنظور اللاهوتي، واعتبر الدين شرطاً للقول بأهلية الإنسان وقدرته على الفعل، فهو مرجعية الأخلاق (الاستعداد للخير)، والمطلوب من الفلسفة هو الترجمة العقلانية للقيم الدينية المطلقة (مشروع كتابه الدين في حدود العقل وحده). أما فلسفة "هيجل"، فليست سوى صياغة نظرية للتثليث المسيحي، وطلبا لتناسب العقل الذاتي المجرد مع الروح المطلق. ويقر هيجل بهذه الحقيقة، مصرحاً بأن كل فلسفته هي تطبيق موضوعي للروح المسيحية. أما الفلسفات الإلحادية، فتندرج في السياق ذاته سلباً، فهي إما محاولة لاستكمال حركية للاهوت المسيحي (استبدال الإله الأعلى بالإنسان الكامل)، كما هو الشأن لدى" فيورباخ" والفلسفات الوجودية أو بحثاً عن لاهوت بديل طلبا للكمال الإلهي برفض صورة الإله – الإنسان كما لدى "نيتشه" مثلاً. وأما "فلسفات الاختلاف " الرافضة للمقاييس الذاتية، فقد صدرت كما هو جلي في كتابات "إيمانويل لفيناس" وخفي في أعمال "جاك دريدا" عن خلفية لاهوتية يهودية، تنعكس في مقولات التبعثر والشتات والتيه، وفي خط "اللاهوت السلبي" المهيمن على التصوف اليهودي. ولا يعني هذا القول أن التقليد الفلسفي الحديث والمعاصر داخل في باب اللاهوت، أو هو من الدس الديني المقصود، وإنما أردنا التنبيه إلى التداخل الكثيف بين المبحثين اللاهوتي والفلسفي في الفكر الغربي المعاصر، بغض النظر عن موقف الفلاسفة من الدين أو من انتماءاتهم الدينية. أما العامل الثاني المتعلق بمناهج التأويل نفسها، فيمكن القول إن العلوم الإنسانية نبذت بقوة الوهم الوضعي الذي طبعها في بداياتها، ولم تعد تدعي مطلقاً القدرة على بناء نماذج موضوعية علمية في دراسة الظاهرة الدينية على غرار الظواهر الطبيعية. فهذه العلوم باعتبار كونها "معارف تاريخية – تأويلية"(حسب عبارة هابرماس) تنغرس في الأرضية التأويلية التي تستمد منها المقولات والمفاهيم التي تسعى لتطبيقها على هذه الأرضية، وتلك هي المعادلة التي أطلق عليها "هايدغر" عبارة "الدور التأويلي". والملاحظ إجمالاً أن المناهج التأويلية المعاصرة تأرجحت بين مسلكين متمايزين: - هرمنوطيقا تستقصي داخل النص المسافة التي تفصلنا عنه عبر وسائط اللغة والتاريخ، فتقف عند السياقات الأصلية وتبرزها في تاريخيتها واختلافها (شلرماخر ودلتاي). - هرمنوطيقا تنطلق من انتماء المأول إلى العالم الذي يخضعه للتأويل، أي إلى السؤال الذي يطرحه النص، وإلى سياقه العقدي والثقافي (جدامير وهايدجر). فإذا كان المسلك الأول مفيد منهجياً في تحريرنا من سلطة التأويلات السابقة، وضروري لإبراز تاريخية المفاهيم والأفكار وسياقات تلقيها وانتقالها، إلا أنه يقوم على وهم لا بد من التحرر منه، هو وهم النص المغلق المفصول عن القارئ. فالقارئ ليس مجرد متلق مستقبل، بل يشارك في إنتاج الدلالة والمعنى. وكما يبين الفيلسوف الفرنسي الكبير "بول ريكور" يفضي فعل التأويل إلى الفعل، لأنه يقتضي تخيل العوالم الممكنة التي يختزنها النص. فليس التأويل إذن استرجاعاً للعالم المفقود، وإنما استقصاء للآفاق التي يفتتحها النص. وهذا البعد هو الذي يطلق عليه ريكور المحور "الشعري" أو الإنشائي poetique ، في مقابل البعدين النقدي والأنطولوجي. من هذه المنطلقات، ندرك أن خطا النظريات التأويلية النقدية، التي برزت في الفكر العربي من أجل قراءة النص الإسلامي أصلاً وتراثاً، اكتفت في الغالب بالمستوى النقدي وبنت عليه نتائج راديكالية لا مبرر لها، عاجزة عن إبداع تأويلات ثرية من شأنها تجديد الدين وتوظيف الإمكانات الخصبة في التراث. لقد عجز مفكرونا عن ما نجح فيه فلاسفة الغرب ومفكروه، الذين استثمروا الآفاق الرحبة للنص اللاهوتي، دون حاجة إلى تبرير هذا التوظيف، ومع احترام شروط التفلسف الإشكالية والتصورية. فالفيلسوف اليهودي المعروف "لفيناس" استطاع أن يجد في النص التلمودي المليء بالخرافة والتعصب ما يبني عليه أخلاقية الاختلاف التي أرادها بديلًا لذاتية الحداثة المتمحورة حول نفسها. والفيلسوف الايطالي "جاني فاتيمو" وجد في تحطيم "نيتشه" للميتافيزيقا سبيلاً لتجديد المسيحية، بعد أن انهارت العقيدة الفلسفية المنافسة لها. وبذا يظهر أن عائق التجديد والتحديث ليس في النص، وإنما في القارئ الذي هو في نهاية المطاف منتج للنص.