جاءت استقالة "جورج تينيت" بعد إخفاق الاستخبارات الأميركية في حرب العراق وفي ما قبل هجمات 11 سبتمبر. لكنها إخفاقات تتجاوز نطاق CIA والبلدان التي نحاربها أو نطارد الإرهابيين فيها. ففي أفقر مناطق العالم، يبدو أن الحكومات تعمل على نحو أعمى فتواجه التحديات التي لا تدركها ولا تستطيع حلها.
وتلك ليست مشكلة بدأت في إدارة بوش، على رغم أن اجتماع الجهل بالغرور في سياسته الخارجية قد برهن على أنه تركيبة قاتلة. فبرامج التنمية الأميركية تم إتلافها فتقلص الفهم المؤسساتي للمجتمعات التي تغلي بسبب البطالة والزيادة السكانية السريعة وتفشي الأمراض والجوع المزمن.
وسواءٌ كنتُ أنظر إلى مجلس الأمن القومي أو وزارة الخزانة أو مجلس المستشارين الاقتصاديين أو لجان الكونغرس ذات العلاقة، أجد عدداً قليلاً جداً من الأفراد ذوي الخبرة في شؤون البلدان ذات الدخل المتدني. وهذا سيئ جداً لأن هذه البلدان تشكل 40% من العالم وهي تشكل معظم الأماكن التي قاتل فيها الأميركيون وماتوا في العقود الأخيرة.
وعندما لجأت إلى مسؤولي إدارة بوش في 2001 لحثهم على تسريع وتيرة المعركة ضد الإيدز، وجدت أنهم محامون وسياسيون باقون منذ الحرب الباردة.
كما يفتقر هؤلاء إلى الخبرة التخصصية المحتجزة في مركز كبح ومنع الأمراض والمراكز القومية المعنية بالصحة، والتي لم تُعط لأي منها الصدارة في وضع سياسة معنية بالإيدز. ولم تكن "وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية" أفضل حالاً، لأن ميزانيتها وخبراتها استُنزفت بحلول عام 2001 فبقي فيها عدد قليل من المفكرين المستقلين وعدد أقل ممن يعرفون تفاصيل كارثة الإيدز في أفريقيا.
وعلى رغم الاهتمام الحقيقي بمحاربة الإيدز لدى الإدارة، أدت كثرة السياسات وقلة الاحترافية إلى تأخير إطلاق مبادرة بوش العالمية المعنية بالإيدز فمات ملايين البشر. وعندما صار من الحالات الطارئة أن تتم مواجهة التحديات الناجمة عن الفقر في أفريقيا، وانعدام الاستقرار السياسي في أميركا الجنوبية، وعن الكوارث البيئية الآسيوية، لم يكن هناك أحد ليتحدث مع كبار مسؤولينا. وعندما دفعت الأزمة الاقتصادية حكومة بوليفيا إلى حافة الهاوية في السنة الماضية، أثبت المسؤولون الأميركيون المعنيون أنهم غير مؤهلين للرد.
في الحقيقة أن القلق حيال أماكن مثل إثيوبيا وبوليفيا يُعتبر في الدوائر العليا الحكومية ليناً كبيراً أو غير ذي أهمية سياسية- هذا إلى حين تقع الكارثة. ويفسر ذلك الموقف عجز حكومتنا عن توقع وصد الكوارث في أفغانستان وهاييتي والصومال وفيتنام، وفي أماكن كثيرة هدرنا فيها المال والأرواح.
وبأرقام الموازنة يمكننا فهم إحجام السياسة الخارجية الأميركية عن العمل. لقد ولّى زمان خطة مارشال، حين كنا نخصص نسبة من إجمالي دخلنا المحلي لعملية إعادة إعمار أوروبا. وستنفق الولايات المتحدة هذه السنة 450 مليار دولار على الجيش، و15 ملياراً فقط على المساعدات المعنية بالتنمية. وتنعكس نسبة "30 إلى1" هذه في خلل توازن تفكيرنا. فلا شك في خبرتنا العسكرية، لكن قدرتنا على فهم ما يوجد قبل وبعد الحروب- في بلدان الدخل المتدني- يكاد يكون معدوماً.
ويتطلب تغيير ذلك ما هو أكثر بكثير من إدراك أخطاء حرب العراق. ومن البدايات الجيدة إعادة بناء وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية بحيث تتميز في فهم وحل الكوارث الإنسانية والتهديدات الأمنية الناجمة عن الفقر المدقع. وتتطلب هذه الوكالة قيادة وطواقم متخصصة احترافية وغير مسيّسة، وتفويضاً جديداً لدراسة اقتصاد العالم الذي يتصف بحالات انعدام المساواة إلى حد مخيف، وإلى زيادة الموارد المالية لمساعدة البلدان الفقيرة الهشة قبل أن تسقط في حالة الفوضى، وإلى جعلها بمرتبة وزارة لكي يكون صوتها مسموعاً في مراكز القوة.
لكن جهودنا ستحتاج إلى ما هو أكثر من وكالة واحدة، أي لابد من وجود زعماء يدركون أن مشكلات الفقراء ليست تافهة، بحيث يتم تركها لمحبي مساعدة الآخرين، بل مسائل استراتيجية مهمة. وللمرة الأولى منذ عقود، يجب أن نكافح لفهم المشكلات التي لم نألفها هنا، لكنها تشكل أسباب قلق طارئة للمليارات من البشر في الخارج. ففي حالة القوة العظمى "السوبر"، لا يكون الجهل نعمةً بل تهديداً للأميركيين والبشرية.
جيفري ساكس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مدير معهد "الأرض" في جامعة كولومبيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"