العالم كله يعيش حقبة التخطيط المستقبلي للمجتمعات المختلفة، والتي تنتمي إلى ثقافات متعددة. وهذا التخطيط المستقبلي لابد له إن أريد له أن يكون رشيداً أن يوثق الذاكرة التاريخية للمجتمع، وأن يحلل وقائعها تحليلاً موضوعياً ونقدياً في آن واحد. ونقصد بذلك الرصد الدقيق للوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حدثت في المجتمع في مراحل تاريخية سابقة. والمراحل التاريخية وتقسيمها وتصنيفها تثير مشكلة منهجية في علم التاريخ وهي ما يطلق عليها مشكلة "التحقيب" Periodization. ونعني بذلك تقسيم تاريخ أي مجتمع إلى حقب تاريخية متمايزة، وتحديد بداية ونهاية كل حقبة. وهذه بالذات من المشكلات التي يختلف بشأنها المؤرخون في كل مجتمع. وذلك لأن تحديد الحقبة يعتمد على مفهوم آخر هو "القطيعة التاريخية"Historical break ، بمعنى نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة. وحتى لا يكون حديثنا على سبيل التجريد فلنضرب مثالا من التاريخ المصري المعاصر. هناك اتفاق بين المؤرخين على أن ثورة يوليو 1952 بدأت في هذا التاريخ، ولكن متى انتهت؟ أولاً هناك خلاف هل كانت انقلاباً أم كانت ثورة؟ خصوم الثورة يختزلونها في كونها مجرد انقلاب عسكري قام به "الضباط الأحرار" الذين حكموا المجتمع المصري باستخدام القوة وممارسة القمع على الجماهير. بعبارة أخرى هؤلاء الضباط الأحرار، – في نظر هذا الفريق من المؤرخين – أقاموا حكماً استبدادياً ألغى الأحزاب السياسية، وأقام بدلاً منها حزباً واحداً اعتمدوا عليه في الحكم. غير أن هناك فريقاً آخر من المؤرخين يقبل ابتداء بأن ما حدث كان فعلاً انقلاباً عسكرياً، غير أنه سرعان ما تحول إلى ثورة، لأن الضباط الأحرار طبقوا في الواقع برنامج الحركة الوطنية المصرية الذي صاغته القوى السياسية المختلفة من اليمين إلى اليسار، وكان الهدف منه في الواقع ليس مجرد الإصلاح، وإنما تأسيس انقلاب اجتماعي يقوم أساساً على الإصلاح الزراعي ورفع شأن الفلاحين والعمال، وإقامة صناعة حديثة في مصر، والتغيير النوعي في أدوات وعلاقات الإنتاج. وهكذا يمكن القول – في رأي هذا الفريق من المؤرخين وأنا أؤيدهم – أن 23 يوليو 1952 كانت بالفعل انقلاباً ولكنه سرعان ما تحول إلى ثورة حاولت تحقيق العدل الاجتماعي الذي سعت الجماهير المصرية إلى تحقيقه منذ عام 1945 على الأقل وهو تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى عام 1952. غير أن الجماهير والأحزاب السياسية فشلت في حل المشكلة الوطنية التي تتمثل في إجلاء الاحتلال الإنجليزي عن مصر، وحل المشكلة الاجتماعية، والتي هي عبارة عن الفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء. وإذا تركنا هذا الخلاف المبدئي جانباً تظل أمامنا الإجابة على السؤال الذي طرحناه في البداية، وهو متى انتهت ثورة يوليو 1952؟ في قول إنها انتهت بوفاة عبد الناصر عام 1970. غير أنني أرى أنها انتهت في الواقع في 5 يونيو 1967، وهو تاريخ الهزيمة التي لحقت بمصر في الحرب ضد الدولة الإسرائيلية. ومبرري في هذا الرأي أن الثورة حين قامت أعلنت عدة مبادئ منها تكوين جيش قوي قادر على الدفاع عن البلاد، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. غير أن التجربة أثبتت من واقع تخبط قرارات القيادة السياسية قبل وأثناء الحرب – بالإضافة إلى الضعف الشديد في المستوى المهني للقيادات العسكرية، وأن الثورة لم تف بوعودها للشعب، ومن هنا منطق أن نقول إنها انتهت بالفعل عام 1967 ونعني ذلك بالمعنى التاريخي للكلمة. توثيق الذاكرة التاريخية إذن وتحليلها موضوعياً ونقدياً مهمة أساسية ينبغي أن تسبق أي تخطيط مستقبلي. وذلك لأنه من الضروري لأي مجتمع أن يستخلص العبرة من تاريخه الماضي، حتى يتلافى السلبيات التي عوقت مسيرة تقدمه. غير أننا في مجال التحليل الموضوعي والدراسة النقدية للوقائع نصطدم بمشكلة تأويل التاريخ. بعبارة أخرى الوقائع التاريخية أمامنا وقد وثقناها بالفعل من مختلف المظان والمصادر، ولكن كيف يمكن لنا أن نؤول هذه الوقائع! هنا تظهر لنا مشكلة التفسير في العلوم الاجتماعية. فلا يكفي حتى في البحوث الميدانية الاعتماد على المؤشرات الكمية ونشر الجداول الإحصائية، وإنما لابد من تفسيرها. والتفسير – بحسب أدق التعريفات في فلسفة العلوم – هو وضع الظاهرة المفسرة في سياق قانون عام. غير أن هذه الإجابة لا تحل المشكلة، لأنه سيثور سؤال عن طبيعة هذا القانون العام. ويمكن القول إن فلاسفة التاريخ المشاهير مثل توينبى في كتابه المعروف "دراسة للتاريخ"، و"يثيرم سوروكين" في موسوعته النادرة "الديناميات الاجتماعية والثقافية" حاولوا صياغة قوانين عامة عن التطور الاجتماعي والتغير الثقافي. بعبارة أخرى قدموا نظريات عن نشأة وانهيار المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن ثم يمكن – في مجال تأويل التاريخ – الاستناد إلى هذه النظريات. وفي ضوء ذلك يمكن القول إننا لو كنا بصدد تخطيط مستقبلي لدولة مثل مصر فلابد أولاً من تحليل الحقبة التاريخية التي بدأت بإصدار دستور عام 1923، حتى نهاية الحقبة بقيام انقلاب أو ثورة 1923. ونفس التطبيق ينبغي أن يتم بالنسبة لبلد كالكويت على سبيل المثال. لابد من دراسة التجربة الديمقراطية في الثلاثينيات، إن أريد رسم تخطيط مستقبلي للدولة الكويتية. توثيق الذاكرة التاريخية وتحليلها موضوعياً ونقدياً إذن هو الخطوة الأولى اللازمة قبل الشروع في التخطيط المستقبلي لمجتمع ما. غير أن الخطوة الحاسمة الثانية هي ضرورة القراءة المستوعبة والنقدية للتغيرات الأساسية التي لحقت ببنية المجتمع العالمي. وذلك لأن أي تخطيط مستقبلي لا يقوم على أساس فهم التحولات الكبرى التي حدثت في العقود الأخيرة يعد لا معنى له في الواقع، لأن المستقبل لابد أن يبنى على ما حدث في الحاضر. غير أن رسم خريطة معرفية للتغيرات التي لحقت ببنية المجتمع العالمي ليست هينة ولا ميسورة. لأنه يقتضي الرصد الدقيق لهذه التغيرات من ناحية، وفهم المنطق الكامن وراء كل تحول من ناحية أخرى، في ضوء منهج تكاملي يغطي ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. بعبارة موجزة، نحن في مجال التخطيط المستقبلي لأي مجتمع، نحتاج إلى التأويل الصحيح للماضي والفهم العميق للحاضر، والرؤية الاستراتيجية للمستقبل.