تطوير الخدمات الصحية... مغامرة سياسية
منذ أن تولى أوباما مقعد الرئاسة الأميركية في يناير من العام الماضي، تحول إلى واحد من أقل الرؤساء الأميركيين فعالية، وأضعفهم تأثيراً، على صعيد القضايا الدولية والأميركية المحلية. فعلى الرغم من أن الكثيرين وخصوصاً في دول العالم الثالث- قد علقوا آملا كبيرة في أن يشهد عهد أول رئيس أميركي من أصل أفريقي، تغيرات جوهرية في السياسة الخارجية الأميركية، وأن يساهم في حل بعض مشاكل العالم المزمنة مثل قضية الشرق الأوسط، فإن هذه الآمال استُبدلت تدريجياً بالإحباط، وبالعزوف عن متابعة قراراته وسياساته.
ورغم أن الكثير من المحللين والمنظرين قد يطرحون تفسيرات عديدة، خلف تحول أوباما إلى بطة كسيحة أو بطة عرجاء (Lame Duck) ، على حسب التعبير السياسي الأميركي، إلا أن أحد أهم هذه الأسباب لا بد وأن يكون انغراسه في مستنقع تطوير الرعاية الصحية داخل الولايات المتحدة. فأوباما وصل لحد كبير إلى المكتب البيضاوي، محمولًا على أعناق وأصوات الناخبين الأميركيين من أصول أفريقية ولاتينية، والذين منحوه أصواتهم بناء على وعوده التي أطلقها في حملته الانتخابية، بعزمه إصدار التشريعات والقوانين، ووضع السياسات والنظم، التي تتعامل مع المشاكل التي يواجهها هذه الفئة من المجتمع الأميركي. وربما كان من أهم هذه المشاكل، هي قضية الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، وبالتحديد عدم توافر أية نوع من التأمين الصحي لشريحة كبيرة من المواطنين، تصل في بعض التقديرات إلى خمسين مليونا، أو واحدا من كل ستة أميركيين. فالولايات المتحدة، رغم كونها من أفضل دول العالم على الإطلاق في المجال الطبي، فإنها تعتبر من الأسوأ بين دول الصناعية في مجال الرعاية الصحية، وربما حتى أسوأ من بعض دول العالم النامية والفقيرة في مستوى ومقدار ما توفره من رعاية صحية لمواطنيها.
هذا التناقض يعتمد في أساسه على ضرورة التفرقة بين المجال الطبي، بما يتضمن من أجهزة طبية، وأدوية وعقاقير حديثة، ومؤسسات علاجية من مستشفيات وعيادات، بالإضافة إلى أفراد طاقم طبي محترفين ومدربين على أعلى المستويات، وبين نظام الرعاية الصحية، والذي يتضمن مدى انتشار وتوزيع هذه الخدمات الطبية، وتوافرها لأكبر شريحة من المواطنين. فالولايات المتحدة تتفوق وتتميز في مستوى التقنيات الطبية، ولكنها تحتل مرتبة متأخرة نسبياً في مجال الرعاية الصحية. لكن هذه الأخيرة، رغم أن تعريفها ومفهومها يتطور ويتغير بشكل دائم، ويختلف حتى بين الدول والثقافات المختلفة، فإنها تتضمن في أساسها توفير العلاج، وإدارة الأمراض، والمحافظة على الصحة، من خلال الخدمات الطبية، وطب الأسنان، والطب البديل، والصيدلة، والعلوم السريرية، والتمريض، وبقية المهن الطبية المساندة. وهو ما يعني أن نظام الرعاية الصحية، هو نظام يحتوي في طياته على جميع الخدمات، والوسائل، والأدوات، المخصصة للحفاظ على صحة أفراد المجتمع، من خلال الإجراءات الوقائية، والأساليب العلاجية، والتدخلات التسكينية للأمراض المستعصية.
وبين هذه الجوانب المتعددة لمجمل نظم الرعاية الصحية، نجد أن اقتصاديات الرعاية الصحية، أو مصادر التمويل، ومجالات الإنفاق، وسياسات التوزيع، تعتبر من أكثر الجوانب تعقيداً، وأشدها استقطاباً واحتقاناً، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، مما جعلها مستنقعا سياسيا للكثيرين. وخصوصاً في ظل حقيقة أن أية جهود لتطوير الرعاية الصحية، تتأثر سلباً وإيجاباً بالظروف الاقتصادية، والسياسية، والبيئية، التي يتم في إطارها توفير الرعاية الصحية، وهي الظروف التي غالباً ما تكون خارج تحكم صناع القرار في المجال الصحي. فالمعروف مثلًا أن الظروف الاقتصادية، لها تأثير بالغ الأهمية على صحة أفراد المجتمع، من حيث نوعية الأمراض، وأسباب الوفيات، ومستويات وميزانيات الخدمات الصحية. وهو ما يعني أن السياسات الاقتصادية التي تجعل من المساواة الصحية أحد أهم أولوياتها، من شأنها في النهاية أن ترفع من مستوى الحالة الصحية والرفاهية الاجتماعية للسكان، وأن تحسن أيضاً من مستوى الأداء الاقتصادي.
وفي نفس الوقت، نجد أن السياسات المالية والزراعية والصناعية، التي تأخذ في حسبانها الاعتبارات الرأسمالية فقط، تترك أثرا سلبياً على صحة المجتمع ككل. وهي النتيجة التي أصبحت واضحة في السنوات الأخيرة في ظل ظروف العولمة والتحرر الاقتصادي، والتي أدت جميعها إلى تعميق فقدان المساواة الصحية بين الشعوب المختلفة، وحتى بين أفراد الشعب الواحد. ففي معظم الدول التي يوجد بها نظام رعاية صحية ممول من المال العام، يوجد أيضاً نظام رعاية صحية مواز، يعتمد على أموال مستثمري القطاع الخاص، ويخدم القادرين مادياً من أفراد المجتمع. هذا النظام الثنائي في تقديم خدمات الرعاية الصحية، يثير دائماً المقارنات بين طرفيه، من ناحية مستوى الرعاية الطبية، وكفاءة الإدارة، ومدى قيمة العائد النهائي مقارنة بحجم ما ينفق من أموال في كلا النظامين. حيث يؤثر نظام الرعاية الصحية باقتصادياته، بشكل كبير في القطاعات الاقتصادية الأخرى. فنظام الرعاية الصحية عالي التكلفة مثلًا، تتحمل عبئه وتدفع ثمنه القطاعات الاقتصاديات الأخرى. إما من خلال دفع جهات العمل لقيمة التأمين الصحي على العاملين وعلى عائلاتهم، أو من خلال الضرائب المرتفعة التي تفرضها الدولة على دخل الأفراد والشركات، مما يرفع من الكلفة الإنتاجية والأسعار النهائية للخدمات والبضائع. وهو ما من شأنه أن يفقد الكثير من هذه القطاعات ميزاتها التنافسية في الأسواق العالمية، لينتهي الوضع بركود اقتصادي وارتفاع في معدلات البطالة، يؤثران بدورهما سلباً على صحة المجتمع.