داروين... بين الأحياء والجيولوجيا
بالرغم من الدور العلمي الكبير لتشارلز داروين، فإن تحديد ما له وما عليه كان على الدوام موضع نقاش وجدل. بل حتى عبارة "بقاء الأصلح" أو "بقاء الأنسب"، تُعزى إلى فيلسوف علم الاجتماع الذي تحمس بشدة للنظرية، "هربرت سبنسر" وراح يطبقها بالحق والباطل في كل مجال! وما أنجزه "داروين"، كما يقول "رونالد سترومبرج" في كتابه عن "تاريخ الفكر الأوروبي الحديث"، إنما هو ما يلي:
"أولاً: لقد جمع ثروة هائلة من الأدلة عليها، أي على تغيُّرِيّة، أو بالأحرى تحوُّلِيّة الأنواع. ثانياً: تقديمه لنظرية الاصطفاء الطبيعي إسناداً لها". وهكذا، يضيف "سترومبرج"، ضرب داروين المثل على "الأهمية الجوهرية للدقة والشمول والمقارنة بين الأبحاث العلمية، الأمر الذي وطد مكانة العلم، كمؤسسة اجتماعية، أي أن داروين برهن على أن العبقرية، مهما بلغت من الإلهام، تبقى في منجزاتها دون العمل الصابر الدؤوب في جميع المعطيات العلمية والمقارنة بينهما. لقد كان داروين عبقرياً ولكن أشد الناس إعجاباً به يعترفون بأن عبقريته تتبدى في جِدِّه وصبره اللامتناهيين، أكثر من تجليها في ذكائه الخارق. ولم يكن داروين بارعاً في إقناعه الناس بنظريته فقط بسبب البراهين العلمية التي جمعها ونسق بينها، بل أيضاً بفرضيته المذهلة التي شرح فيها كيفية حدوث النشوء والارتقاء".
ولم ترسخ جهود داروين مكانة العلم في الفكر والمجتمع، بل أدت إلى هيمنة "علم الأحياء" Biology على مختلف الأوساط الفكرية مع نهاية القرن التاسع عشر كذلك. وقد رأينا كيف سيطرت الفيزياء والرياضيات والكيمياء مع بدايات القرن العشرين، بينما كانت الجيولوجيا سيدة الساحة قبل اشتداد الجدل حول نظرية وأفكار داروين.
وكما كان الدين وما جاء في الكتب المقدسة من أسباب الجدل في صحة نظرية التطور و"اجتهادات" داروين، كان كذلك محور صراع واسع سابق في أوروبا بين نظريتين جيولوجيتين! فقد سكّ عالم طبقات الأرض السويسري "دي سوسير" مصطلح الجيولوجيا عام 1779. وقد بلغ هذا العلم مكانته المستقلة البارزة بعد أعوام من ذلك، وبخاصة عندما خرج العالم الأسكتلندي جيمس هاتون عام 1788 بنظرية "التشاكلية" أو "الاتساقية" Uniformitarianism في مقابل آراء عالم المعادن الألماني فرنر Werner رائد "المدرسة الكوارثية" أو "النظرية النبتونية"، نسبة إلى الكوكب نبتون، الذي عرض عام 1780 نظرية تقول بأن الأرض كانت مغمورة بمياه المحيطات، وأنه عندما انحسرت المياه خلّفت وراءها مكونات ومعادن وأحافير. وكانت لهذه المدرسة الكوراثية جماعات تؤمن بها، بسبب انسجامها مع الروايات الدينية المسيحية وما جاء في الكتاب المقدس وبخاصة "سفر التكوين". ورغم أن "فرنر" لم يغادر موطنه، فإنه كان يؤكد أن جميع الصخور والمعادن قد تراكمت واصطفت بنفس النسق.
وفي القرن التاسع عشر، وجدت هذه النظرية الجيولوجية، ذات البعد التوراتي، من يدافع عنها مثل الفرنسي جورج كوفييه، والانجليزي وليام بكلاند وغيرهما. على العكس من هذه النظرية، كانت "الاتساقية" أو التماثلية، التي بدأها تشارلز لايل، صاحب كتاب مهم من ثلاثة مجلدات في مبادئ الجيولوجيا، فمثل هذه المدرسة في مجال الجيولوجيا، ثم ويليام ويول، الذي أكمل عمل "لايل". وقد عارضت هذه المدرسة مبادئ النظرية الكوارثية في الجيولوجيا، وأكدت القوانين الثابتة في الطبيعة، وأن التحولات الجيولوجية تتم خلال عصور وأبعاد زمنية هائلة، فهي لا تنسجم بالضرورة مع نظرية الخلق أو أفكار مدرسة "فرنر". وقد أثارت نظرية "هوتون" التماثلية هذه ضجة كبرى، ولا سيما أنها استثارت غضب بعض رجال الدين، لأنه كان من الصعب جداً التوفيق بينها وبين المفهوم الحرفي للكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، ونشأ تنافس حاد بين "النظرية الكوراثية" و"النظرية التماثلية".
وتصدى المحافظون في العلم في انجلترا، يقول "سترومبرج: نحو ثلاثة عقود، حتى عام 1820، لهوتون وأشياعه، وشنوا عليهم حملات شديدة، ووصفوه وأتباعه بأنهم "عناصر هدامة"، وكذلك كانت أيضاً حال "لامارك" في فرنسا. ولكن المعطيات التي تم جمعها أرغمت المحافظين المتزمتين على التراجع وأخيراً الاستسلام للثورة الجديدة. وأصبح القس "وليم باكلاند"، الذي ذكرناه ضمن المدافعين عن "النظرية الكوارثية" عالماً جيولوجياً مرموقاً، وتبنّى نوعاً من الحل الوسط بين النظرية الدينية والنظرية الجيولوجية رغم تمسكه باعتقاده بالطوفان.
كانت فكرة تطور أو تسلسل الكائنات بشكل أو بآخر، كما هو معروف، من الأفكار المتداولة منذ عهد اليونان، حيث يبدأ التسلسل من أدنى الكائنات ويصعد إلى أرقاها. لكن الناس كانوا يعتقدون أن هذه الهرمية سكونية وأنها من تدبير الخالق وأنها تبعث على الارتياح لانتظامها، وأنها ثابتة طول الزمن. فصور الأنواع بقيت على حالها، ولم يطرأ عليها أي تحول أو تبديل. ولقد اعتقد أرسطو بأن العالم مخلوق على الحال التي هو فيها منذ الأزل، وأن لا بداية له. ولا ريب أن هذا الاعتقاد يتناقض شكلاً وموضوعاً مع نظرية النشوء والارتقاء. وقد اختلف إغريق آخرون مع أرسطو مثل الفيلسوفين "أناكسيماندر" و"امبيدوكليس" اللذين أوحيا بنظرية النشوء والارتقاء. ولكن نظرية أرسطو طغت على آرائهما، كما سبق لها أن طغت على الآراء المخالفة له في علم الفلك.
انتصار المذهب الجيولوجي والمدرسة التماثلية التي أكدت وجود عصور سحيقة القدم للحياة، والاهتمام الشديد الذي نما منذ القرن الثامن عشر بعلم الأحياء، قد مهدا بلا شك للاكتشافات البيولوجية التي حققها داروين. ولذلك، يقول سترومبرج، "بأن المرحلة الزمنية الواقعة بين عامي 1750 و1850، كانت تتماثل مع القرن الفاصل ما بين كوبرنيكيس ونيوتن. فالقضية قد أثيرت، واستقطبت اهتمام المفكرين، ودائرة المعرفة بها ازدادت اتساعاً، وكانت فقط تنتظر قدوم ذاك العبقري الذي سيجمع شتات المعارف ويصوغ منها نظرية متكاملة".
وكما هو معروف، بادر العالم الفرنسي "لامارك" إلى عرض نظرية خاصة به تفسر ارتقاء الأنواع قائمة على إمكانية توريث المميزات المطورة. فهناك مثلاً الغطاسون البولينزيون القادرون على البقاء تحت سطح الماء لمدة ست دقائق أو ثمان، فهي قدرة نمت بسبب امتداد الزمن بهم في هذه المهنة. وقد يفسر "لامارك" هذا الواقع بأن كل جيل قد عمل في رئتيه شداً ومطاً، ومن ثم أورث رئاته الممطوطة إلى خلفه. ولقد رفض هذا القول أتباع داروين الذين يعتقدون بأن ذوي الرئات القوية أصبحوا غواصين واستمروا، أما الباقون فلم يمارسوا الغوص، أو أنهم غرقوا حين الغوص. وفي عام 1844، قبل صدور كتاب داروين بسنوات، أصدر الموسوعي الانجليزي "تشامبرز" كتابه "آثار تاريخ الخليقة الطبيعي"، الذي تضمن أفكاراً من نظرية داروين، لكنه لم يسندها بالبراهين العلمية التي جمعها داروين لنظريته بعناية وصبر.
ويقول الباحث الألماني إن "داروين" استمد نظريته من "مالتوس" الشهير في مجال علم السكان والمجاعات، وهذا ما يؤكده سلامة موسى في كتابه "هؤلاء علموني". ويشير موسى كذلك إلى تأثير ظروف الثورة الصناعية عليه، والتي كانت في تلك الأعوام ترغي وتزبد في بريطانيا. فالمصانع تحتشد بالعمال من الرجال والنساء والصبيان، والثروات تنمو، والمزاحمة على أقصاها، والحاجة تتزايد إلى الأسواق والمستعمرات. وعاش داروين في تنازع البقاء هذا الذي لا يفتر في "لانكشير" وغيرها من الأقاليم الصناعية في انجلترا.