التأثيرات النفسية لإدمان الإنترنت
تناقلت وسائل الإعلام منتصف الأسبوع الماضي خبر إلقاء القبض على زوجين من كوريا الجنوبية بتهمة إهمالهما لطفلهما الرضيع، مما أدى إلى وفاته بسبب سوء التغذية. وحسب الخبر المنشور كان هذان الزوجان قد فقدا وظيفتيهما، مما أفقدهما أيضاً الرغبة في الاستمرار في الحياة بشكل طبيعي، ولذا شرعا في قضاء معظم ساعات اليوم في مقاهي الإنترنت، يلعبان أحد أنواع ألعاب الكمبيوتر المعروفة بألعاب تقمص الدور (Role-playing game). وفي هذا النوع من الألعاب، وكما يدل الاسم، يتقمص اللاعب شخصية معينة، توضع في ظروف خاصة، وبناء على مدى التزام اللاعب بالقواعد، واتباعه للتعليمات، يحقق أكبر قدر من النقاط بما يمكنه من الفوز في النهاية. ولتقريب هذا المفهوم، وفي حالة الزوجين الكوريين تحديداً، فقد تقمصا دور أبوين لديهما طفل رضيع، مسؤوليتهما هي رعايته، وتغذيته، وتربيته. وبما أن الطفل الافتراضي، يحتاج إلى رعاية على مدار الساعة، قضى الزوجان وقتهما بالكامل في رعايته للحصول على أكبر قدر من النقاط، من خلال جلسات استمرت الواحدة منها 12 ساعة متصلة. والمشكلة -صدق أو لا تصدق- أن هذين الأبوين كان لديهما طفل رضيع بالفعل، حديث الولادة، عمره ثلاثة أشهر، ولكنهما تركاه وحده في المنزل طيلة اليوم، حيث كانا يقومان بإطعامه مرة واحدة خلال اليوم، في الفترة الفاصلة بين جلسات اللعب المستمرة. وبمرور الوقت قضى الطفل المبتسر أصلا نحبه، بسبب سوء التغذية، والجوع المستمر على مدار عدة شهور. والغريب أن هذين الزوجين ليسا بالمراهقين أو صغيري السن، فالزوج عمره 41 عاماً، والزوجة 25 عاماً، ويتمتعان بالخبرة والإدراك الكافيين لتنشئة طفل في هذا العمر، وهو ما اتضح من وصولهما لمستويات مرتفعة في اللعب من خلال رعايتهما الجيدة لطفلتهما الافتراضية على شاشة الكمبيوتر.
والحال أن هذا الخبر يعيد للأذهان قصة الشخص الذي لقي حتفه قبل بضعة أعوام، وفي كوريا الجنوبية أيضاً، بعد أن ظل يلعب إحدى ألعاب الكمبيوتر بشكل مستمر لفترة 50 ساعة متصلة، متوقفاً لفترات قصيرة لقضاء حاجته، أو النوم لدقائق معدودة. وأفاد تقرير المستشفى الذي نقل إليه ذلك الشخص، البالغ من العمر 25 عاماً، بعد سقوطه مغشياً عليه، ووفاته لاحقاً على رغم محاولات الأطباء المستميتة لإسعافه، أن سبب الوفاة هو هبوط أو فشل القلب بسبب الإجهاد، وقلة النوم، وعدم الحصول على كميات كافية من الطعام. وعلى عكس الزوجين في الخبر السابق، اللذين لجآ لألعاب الكمبيوتر بعد فقدانهما لوظيفتيهما، فقد فقَدَ هذا الشخص وظيفته -وحياته لاحقاً- بسبب إدمانه على الإنترنت وألعاب الكمبيوتر حصراً. ومثل هذا النوع من الإدمان، حديث العهد نسبياً، أصبح مصدر قلق للأطباء، بسبب تزايد انتشاره بين الشباب والمراهقين، دون أن يكون هناك تقدير دقيق لمدى وحجم المشكلة، التي لا زالت تعالج بقدر كبير من الاستخفاف والتهوين.
وهذه النظرة المستخفة بالتأثيرات النفسية السلبية للإنترنت وألعاب الكمبيوتر والفيديو، لا تقتصر على المدمنين وحدهم، بل تمتد أيضاً إلى المستخدم العادي، الذي أصبح يقضى معظم ساعات العمل أمام الكمبيوتر، ووضع ساعات أخرى في منزله. ومثل هذا التغير الجوهري في كيفية قضاء مهام العمل، مقارنة ببضعة عقود مرت، بالإضافة إلى تداخل الكمبيوتر مع سبل الترفيه وقضاء أوقات الفراغ، أصبح ذا تأثير بالغ على الصحة النفسية لإنسان العصر الحديث. وهو ما اتضح من خلال دراسة صدرت بداية الشهر الماضي، أجراها علماء جامعة "ليدز" البريطانية، ونشرت نتائجها في إحدى الدوريات المتخصصة في العلوم السلوكية والنفسية. فعلى رغم أن هذه الدراسة أظهرت أن نسبة مدمني الإنترنت لا تزيد عن 1.2 في المئة من مجمل مستخدميها، إلا أن الحالة النفسية للكثيرين منهم كانت تتميز بسمات ترتبط بالاكتئاب، وبقدر أكبر مقارنة بالأشخاص الذين لا يعتمدون على الإنترنت في تأدية وظائفهم، أو في الترفيه. وتفسير نتائج هذه الدراسة، لابد أن يأخذ في الاعتبار أن الاكتئاب يتكون من طيف ودرجات متعددة، تختلف في حدتها وشدتها. وما وجده العلماء القائمون على تلك الدراسة هو أن الأشخاص الذين يفرطون في استخدام الإنترنت، يقعون في مكان على هذا الطيف الواسع أقرب للسوداوية من عامة الناس.
وهذه النتيجة ربما يكون سببها أن الأشخاص المكتئبين يبتعدون بسبب حالتهم النفسية عن السياق الاجتماعي العام، ويلجؤون لقضاء جزء كبير من وقتهم على الإنترنت. أي أن استخدام الإنترنت في هذه الحالة هو نتيجة للحالة النفسية للشخص، وليس سبباً فيها.
والتفسير الآخر لاتصاف مستخدمي الإنترنت بنفسية أكثر سوداوية هو أن الإنترنت بطبيعتها الفردية، تعزل المستخدم عن التواصل الإنساني، والاتصال البشري، مما يؤثر سلباً على نفسيته. ومن المعروف أن الإنسان كائن اجتماعي، يحتاج إلى التفاعل مع الآخرين للحفاظ على صحته النفسية واتزانه العقلي، مما يجعل الحبس الانفرادي مثلا أحد أشد أساليب العقاب. هذا بالإضافة إلى أن استخدام الإنترنت نشاط أحادي البعد، ذو وتيرة واحدة، مما يؤدي إلى الملل، ويخفض من الطاقة النفسية، والرغبة في التفاعل، والقدرة الداخلية على تدفق المشاعر وإظهارها.
غير أن هذه الجوانب جميعها هي فقط بعض من الجوانب القليلة التي جعلت من الإنترنت وألعاب الكمبيوتر والفيديو، إحدى القوى المؤثرة في الصحة الفردية والصحة العامة في العصر الحالي، وخصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أضرار صيدليات الإنترنت، والانتحار عبر الإنترنت، والمعلومات الطبية السليمة والمضللة التي أصبحت تتوافر حالياً على ملايين الشاشات حول العالم، وبكبسة "ماوس".