قليلة هي الأدوية والعقاقير التي تتمتع بالتاريخ والشهرة والفوائد التي يتمتع بهم عقار الأسبرين، بداية من تخفيف الآلام والأوجاع ودرء الحمى، إلى الوقاية من الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، ونهاية بمكافحة سرطان القولون والمبيض والثدي لدى النساء. ويبدأ تاريخ الأسبرين منذ القرن الرابع قبل الميلاد، عندما كتب الطبيب اليوناني المشهور "أبوقراط" عن وصفة عشبية تستخدم حينها لتخفيف الصداع والآلام وأعراض الحمى، يتم تحضيرها من لحاء وأوراق شجر الصفصاف. ومنذ تلك الملاحظة التاريخية، استغرق الأطباء أكثر من عشرين قرنا كاملة من الزمان (2300 عام)، كي يتوصلوا إلى تركيب المادة الفعالة في تلك الوصفة العشبية الشعبية، وهو ما تحقق عام 1826 على يد عالم ألماني في جامعة ميونيخ هو "جوهان بكنر". ولكن سرعان ما اصطدم العلماء بمشكلة أن تلك المادة الفعالة كانت شديدة الحمضية، "حمض السليسيليك" (Salicylic acid)، مما جعلها شديدة الوطأة على المعدة، ومنع استخدامها بشكل واسع في العلاج والمداواة. ومع حلول آخر سنوات القرن التاسع عشر، نجح عالم ألماني آخر هو "فليكس هوفمان"، والذي كان يعمل ساعتها لحساب شركة "باير" الشهيرة، في اكتشاف أسلوب كيميائي يمكن من خلاله تغيير تركيب المادة الفعالة بحيث يمكن تقليل تأثيرها الحمضي دون أن تفقد فاعليتها. ثم قام "هوفمان" بعدها بتجربة المركب الجديد على والده العجوز، الذي كان يعاني من التهاب حاد في المفاصل، وبالفعل نجح المركب الجديد في تخفيف آلام وأوجاع الأب. وسارع "هوفمان" إلى إقناع شركته بتصنيع المركب المعجزة بكميات ضخمه وتسويقه كعلاج للآلام والأوجاع. والمثير أن شركة "باير" قامت بحماية العقار الجديد تحت قوانين براءات الاختراع، وأطلقت عليه اسم "الأسبرين"، في الوقت نفسه الذي كانت تصنع وتسوق عقاراً آخر لنفس غرض تخفيف الآلام والأوجاع هو "الهيروين"! وتشاء الأقدار أن تهزم ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ويجبرها الحلفاء ضمن اتفاقية "فرساي"، على أن تتخلى شركة "باير" عن حقوقها الفكرية في الأسبرين، والذي أصبح يعرف بالعقار المعجزة (wander drug) نتيجة مفعوله السريع وأثره الأكيد.
ويعود مفعول الأسبرين، بسبب تثبيطه لنشاط مركبات "البروستجلاندين"، وهي مجموعة من المواد الطبيعية -شبيهة بالهرمونات- التي تلعب دورا أساسيا في العديد من العمليات الحيوية في الجسم. مثل الشعور بالألم، وتنشيط التفاعلات المصاحبة للالتهابات، وفي بدء انقباضات الطلق قبل الولادة، وفي سرعة تخثر الدم، وفي ظهور ونمو الأورام السرطانية. هذه الوظائف المتعددة والمتنوعة للبروستجلاندين، وقدرة الأسبرين على التأثير فيها، هي بالتحديد ما جعله عقاراً معجزة، متعدد الاستخدامات ومتنوع الفوائد. فبخلاف الاستخدام الشائع للأسبرين كعلاج للصداع والآلام ومخفف لأعراض الالتهابات، أصبح من ضمن الممارسات الطبية اليومية أن يستخدم للوقاية من الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية في الأشخاص المعرضين للإصابة بتلك الأمراض. ويعود السبب في ذلك إلى أن البروستجلاندين تلعب دورا أساسيا في التصاق الصفائح الدموية ببعضها بعضاً، وهو ما يؤدي إلى تخثر الدم وتكوين جلطات داخل الشرايين. وإذا ما حدثت هذه الجلطات داخل الشرايين التاجية المغذية لعضلة القلب، فيصاب المريض ساعتها بالذبحة الصدرية وربما الوفاة المفاجئة. وإذا ما حدثت الجلطة في أحد الشرايين الدماغية، فيصاب المريض ساعتها بالسكتة الدماغية أو الشلل المخي. وتأتي أهمية الأسبرين من قدرته على وقف تأثير البروستجلاندين، وبالتالي يمنع الصفائح الدموية من الالتصاق ويحافظ على سيولة الدم داخل الشرايين والأوردة.
أما الاستخدام الأحدث للأسبرين، والذي لا زال تحت الدراسة ولم يبدأ في تطبيقه بعد على نطاق واسع في المجال الطبي، فهو دوره في الوقاية من بعض الأورام السرطانية، وبالتحديد تلك التي تلعب البروستجلاندين دورا مهما في ظهورها ونموها. ففي الآونة الأخيرة ظهرت الدراسة تلو الأخرى، لتبين أن الأسبرين يمكن أن يشكل خطا دفاعيا مهما في مجال الوقاية من أنواع معينة من الأورام السرطانية. وآخر تلك الدراسات نشرت قبل أسبوعين في المجلة العلمية المرموقة (Journal of the American Medical Association)، أجراها علماء جامعة "كولومبيا" على قرابة ثلاثة آلاف امرأة، وأظهرت الدراسات، أن الأسبرين نجح في خفض احتمالات الإصابة بسرطان الثدي بحوالي 28%، بين من كن يتعاطينه بشكل يومي من النساء المشاركات في الدراسة. وعلى الصعيد نفسه، طرح علماء مركز سرطان (Fox Chase) في مؤتمر الجمعية الأميركية للسرطان في نهاية شهر مارس الماضي، نتائج دراسة أظهرت أن التعاطي اليومي للأسبرين يحتمل أن يكون له دور مهم في علاج سرطان المبيض، من خلال تثبيطه لبروتين معين يعتمد عليه هذا النوع من السرطان في النمو والانتشار. ومثل هذا التأثير الإيجابي للأسبرين على الأورام السرطانية، تتوافد أخباره منذ فترة من العديد من الدراسات حول العالم، وخصوصا سرطان القولون وال