"عراق ديمقراطي"... شرط لسلام المنطقة
احتدم النقاش عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة الأميركية، في دوائر واشنطن، وفي الأوساط المعنية بوضع السياسات بشكل عام، بشأن كيفية الاستجابة لخطر التطرف الإسلامي، خاصةً وأن المتهمين بالتخطيط لتلك الهجمات وتنفيذها، جميعهم من منطقة الشرق الأوسط. وكان من رأي إحدى مدارس السياسات في واشنطن، أن السبيل الأمثل للحد من جاذبية تنظيم "القاعدة" وقدرته على استقطاب مزيد من المقاتلين في صفوفه، هو تسريع الحل السلمي للنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني. وكان من رأي هؤلاء، أن حلاً كهذا، سوف يحدث تحسناً كبيراً لصورة الولايات المتحدة بين شعوب المنطقة، مع ضغط مكثف على العراق وسوريا وإيران، يهدف لإرغامها على التخلي عن سياسات المواجهة التي تتبناها إزاء الغرب، لاسيما الولايات المتحدة.
لكن كان من رأي مدرسة أخرى للسياسات -وهي المدرسة التي كان النصر حليفها في نهاية المطاف (للأسف)- أن الاستجابة المثلى التي يجب أن تكون لها الأولوية هي الإطاحة بالنظام الحاكم في بغداد حينها، على اعتبار أن استبدال صدام حسين بحكومة ديمقراطية شرعية منتخبة، سوف تكون له تأثيرات كبيرة على المنطقة ودفعها باتجاه التحول الديمقراطي، بما في ذلك إرغام الأنظمة الأوتوقراطية الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط على تغيير سياساتها الاستبدادية. وكان هذا ضمن ما عرف حينها بمشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير. ومن رأي أصحاب هذه المدرسة السياسية أن من شأن هذا التحول الديمقراطي للمنطقة أن يساعد كثيراً على حل النزاع الإسرائيلي -الفلسطيني.
لكن للأسف، فقد أسفر غزو العراق في صيف عام 2003، وما ترتب عليه من فوضى أمنية سياسية لا يزال يعاني تأثيراتها إلى اليوم، عن تخييب أي آمال لحدوث تحول سياسي جذري في سياسات الشرق الأوسط. وكلما ازداد تورط الولايات المتحدة في مأزق الحرب التي شنتها على العراق، كلما تزايدت الكراهية الإقليمية لها، وكلما ازدادت الأزمة الإسرائيلية -الفلسطينية سوءاً.
وفي ظل هذه الظروف، غامر جورج الابن مغامرة كبيرة خطيرة، بتبنيه لسياسة زيادة عدد القوات المرابطة في العراق، في عام 2007. لكن لحسن حظه، فقد نجحت تلك الخطة. وبفعل تأثيراتها الإيجابية، تراجع العنف عما كان عليه بحلول عام 2008، بينما بدأ العراق الخروج من كابوسه الأمني الذي لازمه منذ لحظة الغزو.
وفي السابع من مارس الجاري، تمكن العراقيون من عقد ثاني انتخابات عامة لهم. ورغم أن نتائج الانتخابات الأخيرة لا تزال مجهولة حتى كتابة هذا المقال، فإن جميع المؤشرات تفيد بأنها انتخابات نزيهة وناجحة.
والحقيقة أن هذه الانتخابات قد اتسمت بحدة التنافس السياسي الانتخابي فيها، بينما شهدت ارتفاعاً نسبياً ملحوظاً لعدد المشاركين، إذ بلغت نسبتهم نحو 62 في المائة، رغم العنف والتهديد والابتزاز التي تعرض لهما الناخبون. هذا إضافة إلى خضوع الانتخابات الأخيرة للرقابة الدولية من قبل آلاف المراقبين الدوليين. ولم يرصد هؤلاء المراقبون أي انتهاكات صارخة لقوانين الانتخابات والممارسة الانتخابية، مثلما كانت عليه الانتخابات الأفغانية التي جرت في أغسطس 2008.
وباستثناء لبنان، لم تشهد منطقة الشرق الأوسط، أي انتخابات حرة ونزيهة مثلما هي الانتخابات العراقية الأخيرة. وعليه، فمن مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها، أن تسفر هذه الانتخابات الأخيرة عن أي تحالف سياسي وطني فائز بها، لأن من شأن ذلك أن يساعد على حل الكثير من المشاكل التي لا زال يعانيها العراق، بما فيها الخلافات الدائرة بشأن مصير كركوك، ودوامة العنف الطائفي، والاتفاق بشأن تشريعات لاستخراج الثروات النفطية وتوزيع عائداتها.
وفيما لو برز عراق علماني قوي ومستقر، فسوف يكون لذلك تأثيراته البعيدة المدى على المنطقة بأسرها، وفي ذات الوقت الذي يوفر فيه العراق قوة إقليمية موازية للأنظمة الاستبدادية. كما يبعث العراق القوي المستقر، برسالة واضحة إلى "حزب الله" وحركة "حماس" وغيرهما من التنظيمات التي ترعاها وتتحالف معها دول بعينها، مفادها أن شعوب العالم الإسلامي قد سئمت من سياسات العنف التي تتبناها، وأنها تفضل السعي إلى تسوية سلمية للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بديلة للعنف.
لكن، وفيما لو لم تمض الأمور في العراق كما ينبغي، فليس لنا أن نتوقع إحراز أي تقدم في الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية. ويذكر أن نائب الرئيس الأميركي، بايدن، زار إسرائيل في الثامن من الشهر الجاري، بهدف الإعلان عن مفاوضات جديدة غير مباشرة بين الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، يتوسط فيها السيناتور السابق ميتشل، مبعوث الرئيس أوباما الخاص للمنطقة. لكن نظر الكثيرون إلى هذه الخطوة، باعتبارها قفزة كبيرة إلى الخلف، ولا يتوقع لها أن تنجز شيئاً يذكر. ذلك أن انقسام القيادة الفلسطينية، وكذلك انقسام البرلمان الإسرائيلي على نفسه، لن يساعدا الطرفين كثيراً على الاتفاق على تنازلات أساسية لابد منها من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع بينهما، في ظل غياب الضغوط المكثفة عليهما من قبل المجتمع الدولي، لاسيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ولعل أحد العوامل الرئيسية المساعدة على انخراط المجتمع الدولي في هذه العملية مجدداً، هو انسحاب القوات الأميركية من العراق، وبروز العراق بصفته لاعباً أساسياً في سياسات المنطقة. ويفترض هذا بالطبع، أن تعرب الحكومة العراقية الجديدة عن رغبتها في أن تؤدي دوراً إيجابياً بناءً على الساحة الإقليمية، بدلاً من أن تكون مخلباً لقوى إقليمية. ومما يبعث الاطمئنان، تضاؤل النفوذ الإيراني على العراق، نتيجة للنزعة الاستقلالية التي يبديها العراقيون. فحتى الجماعات العراقية التي أفادت من الدعم الإيراني المقدم لها، لا تنظر إلى طهران باعتبارها نموذجاً يحتذى في وطنها. بعبارة أخرى، فإن ما نرمي إلى قوله هو أنه، وفيما لو برز العراق بصفة لاعب رئيسي مسؤول في سياسات المنطقة الشرق أوسطية، فإن في ذلك ما يحقق مزاعم أولئك الذين قالوا إن الإطاحة بنظام صدام حسين، تعد خطوة لا غنى عنها من أجل تحقق الإصلاح وبسط السلام والاستقرار والرخاء في المنطقة بأسرها، بما في ذلك حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.