ستبقى رؤيتنا للإصلاح الشامل بأنه ليس - كما يعبر عن ذلك بعض دعاة الإصلاح - عبارة عن مجموعة قرارات فوقية تصدر عن السلطة، بقدر ما هو عملية مجتمعية ينبغي أن تشارك في تفاعلاتها كل أطراف المجتمع بدون أي استثناء. ويبدو أن المطالبين بالإصلاح والذين يوجهون خطابهم إلى السلطة، يحاولون - ما أمكنهم ذلك – التنصل من مسؤولياتهم في ممارسة النقد الذاتي، والنكوص عن القيام بأدوارهم المهمة في سبيل إنجاح عملية التغيير الشامل.
السلطة العربية لها سلبياتها لا شك في ذلك، ولعل أهم هذه السلبيات قاطبة تضييق دائرة المشاركة السياسية، من خلال فرض قوانين استثنائية تحد من حرية حركة الجماهير، وتصادر حقها في الإسهام الفعال في عملية صنع القرار. ومن ثم فمطالبتها بالتغييرات الدستورية والقانونية والسياسية لتعديل هذه الأوضاع، وفتح آفاق مستقبل أكثر ديمقراطية مسألة منطقية.
ولكن ماذا عن قيام دعاة الإصلاح ممن يخاطبون السلطة العربية بالصوت العالي بإصلاح أنفسهم؟ بعبارة أخرى أليس في ممارسة الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني العربي من نقابات مهنية وعمالية وجمعيات غير حكومية، التي تخصصت في الدفاع عن حقوق الإنسان، أو تساهم في تنمية المجتمعات المحلية، ما يدعو إلى الإصلاح؟
إن هناك بحوثاً ودراسات موثقة عن تدهور الوضع الديمقراطي داخل الأحزاب السياسية ذاتها، وهناك مشكلة الحزب الواحد الذي يريد الهيمنة على كل الفضاء السياسي بالرغم من التعددية الحزبية في بعض البلاد العربية، ولكنها إما تعددية مقيدة، أو تعددية صورية. وماذا عن النقابات المهنية؟ أليس في ممارساتها في بعض البلاد العربية ما يدعو إلي إصلاح حقيقي؟ وألم تحاول بعض التيارات السياسية، وأبرزها تيار الإسلام السياسي الخلط بين الحزبية والنقابية، وأرادت "غزو" النقابات والسيطرة عليها، وتوجيه العمل النقابي بما فيه خدمة أهدافها السياسية؟
ولدينا نماذج صارخة لهذا الانحراف النقابي في نقابة المحامين المصرية، وكذلك نقابة المهندسين.
وإذا ولينا وجوهنا إلي النقابات العمالية، ألم يستسلم بعض قادتها لإغراء السلطة التي اجتذبتهم بمناصبها، بعيداً عن موقع الدفاع الشرعي عن حقوق العمال؟
وإذا نظرنا أخيراً إلى الجمعيات غير الحكومية التي نشطت في عديد من البلاد العربية مؤخراً، وهو تطور محمود ولا شك فيه، ألا تشوب ممارساتها العديد من السلبيات التي تحتاج إلى وقفة من خلال ممارسة النقد الذاتي؟
عديد من هذه الجمعيات لا تمارس قواعد الشفافية المطلوبة، وخصوصاً بصدد التمويل الأجنبي، فلا تنشر ميزانياتها على الملأ. وأسوأ من ذلك أن هناك حالات انحراف صارخة تمثل الإثراء غير المشروع من خلال التلاعب في الحسابات، وتخصيص مكافآت مبالغ فيها لمن يديرون هذه الجمعيات، مما أدى إلي نسيان الأهداف الأصيلة لها، وأصبح هاجس الإثراء هو الهاجس الأول لمن يشرفون عليها!
إن ذلك يؤثر سلبا على حركة مؤسسات المجتمع المدني ذاته التي تقف مناطحة للدولة ذاتها في قضايا الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان. ومن ثم فبدلا من توجيه خطاب أحادي من قبل المنادين بالإصلاح للسلطة العربية وكأنها هي فقط المطلوب أن تصلح نفسها، لابد أن نقبل كلنا مؤسسات ومواطنين مسؤولية القيام بالإصلاح، باعتبارها - كما أكدنا أكثر من مرة- عملية مجتمعية شاملة.
من يتأمل المناخ الثقافي في المجتمع العربي اليوم، فلابد له أن يلاحظ سيادة ثقافة الخوف من السلطة. ونعني بذلك على وجه التحديد أن المواطنين العرب - الذين وإن كانوا يعيشون في ظل أنظمة سياسية متنوعة تتراوح بين الشمولية المطلقة والديمقراطية المقيدة- إلا أنهم جميعا تقريبا يحسون بأنهم رعايا الدولة، وليسوا مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات بنص الدساتير والقوانين.
وهذا الوضع الإدراكي السيئ يجعلهم يمارسون حياتهم السياسية والفكرية والاجتماعية، وهم في حالة خوف من بطش السلطة، في سياق لا تبدو فيه دولة القانون ماثلة، بكل تقاليدها. ومن هنا لابد من التأكيد أنه لا يمكن للإصلاح أن يأخذ مجراه بدون التصدي بشجاعة وبدون مواربة لثقافة الخوف، وتحديد أسبابها، والكشف عن تجلياتها، ووضع الضمانات الدستورية والقانونية للمواطنين التي تكفل – على المدى الطويل – اقتلاعها من جذورها.
غير أن إزالة ثقافة الخوف تحتاج إلى جهود أخرى، أهمها تغيير نمط التنشئة الاجتماعية ذاته السائد في المجتمع العربي، والذي يجعل الصغير يمتثل بغير تفكير لتوجيهات الكبير، والذي يرسخ أعراف القبيلة على تشريعات المجتمع، والذي يشيع فكرة ضآلة الفرد في مواجهة النظام المسيطر.
وليس هناك من سبيل للقضاء على ثقافة الخوف بغير تدعيم فكرة المواطنة، والتي تنص على مساواة المواطنين جميعا أمام القانون بغض النظر عن اللون والجنس والدين. وحين تتعمق أصول المواطنة في نفس الفرد، فإن ذلك هو السبيل الأمثل لتعميق روح الانتماء للوطن.
ونحن هنا نتحدث عن شيوع ظاهرة الاغتراب الاجتماعي في المجتمع العربي المعاصر. والاغتراب في تعر