"بيت الحكمة" وجامعة العقول
كنت في عداد الوفد الذي ترأسه رئيس الجمهورية إلى المملكة العربية السعودية منذ أيام. وكان اليوم الثاني للزيارة وبعد لقاء خادم الحرمين الشريفين يوماً مميزاً في رحاب مشروع يميز المملكة لعقود مقبلة من الزمن بالتأكيد، وهو "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية".
سمّي المشروع بـ "بيت الحكمة"، وهي تسمية جميلة جداً لأن ثمة حكمة في الأساس في إطلاقه. حكمة في إطار رؤيا كاملة لدور وهدف هذا المشروع. وأساس الدور ينطلق من جمع العقول من كافة أنحاء العالم، فأصبحت الجامعة "جامعة العقول" بكل ما للكلمة من معنى.
نعم عقول عالمية وخصوصاً إسلامية وعربية تبحث، تدرس، تنقب، تستخدم أفضل التقنيات لتستخلص النتائج التي تعود بالخير على الإنسانية جمعاء. هنا يلتقي الباحثون غير القادرين على التحصيل العلمي والبحث المتواصل في جامعات العالم.
هنا يأتي الأغنياء في أفكارهم وإرادتهم وطموحاتهم والفقراء عموماً بمالهم، سواء أكانوا من الأساتذة القادمين من كل أنحاء العالم وهم عاشوا تجارب فقر أو حاجة ويتمتعون بخبرات عالية، أو من الباحثين غير القادرين على إتمام علمهم وبحثهم في أي مكان، فأتاحت لهم الجامعة هذه الفرصة، وقدمت لهم كل الإمكانات: يبحثون، ينجزون، ويستثمرون أبحاثهم ونتائجها في شركات ومصانع ومؤسسات كبرى، وسيقام قسم كبير منها في المملكة وإلى جانب الأرض التي تحتضن هذا المشروع الكبير.
لبنان له الحصة الأساس في هذا المشروع. ففي كلية البحث في الطاقة واستخدام الطاقة الشمسية كطاقة بديلة، يقود البحث ويشرف على المشروع عالم لبناني شاب اسمه غسان جبور. وفي الجامعة ستة باحثين وباحثة. وما سينجزه العالم "جبور" والباحثون معه سيكون له الأثر المعنوي والبيئي والمادي والسياسي بالمعنى الإستراتيجي للكلمة على المملكة وموقعها ومن خلالها على العرب والمسلمين عموماً.
نعم، من هنا وعلى يد هذه النخبة العربية من العلماء والباحثين، ستولد طاقة بديلة نظيفة تغذي المنطقة، وتفتح آفاق تبادل تجاري واقتصادي وإنتاجي على مستوى العالم.
وفي مجال آخر، كلية تهتم بالبيئة الغذائية. فالبحر الأحمر يختزن ثروات هائلة، ولا بد من الاستفادة منها وتطويرها. وثمة باحث صيني كبير يقود أبحاثاً وتجارب ويتطلع إلى نتائج متقدمة جداً في الاستفادة من المياه المالحة للإنتاج بالإضافة إلى الثروة السمكية الموجودة في البحر.
وإلى جانب هذا المشروع مشروع آخر يهدف إلى تحويل الأرض الصحراوية إلى أرض خضراء منتجة والاستفادة من خيراتها في مجال الغذاء لمواجهة الفقر والجوع وتحدي الازدياد السكاني، واتخاذ الإجراءات الوقائية الضرورية مع المتغيرات المناخية المتسارعة ومخاطرها على البيئة والغذاء في كل أنحاء العالم.
إنها فعلاً جامعة عقول في حقول تجارب مختلفة. ففي رحاب الجامعة نرى المختبرات الأكثر حداثة في العالم والعلماء الأكثر قدرة ورغبة وإرادة، كما نرى أجهزة الكمبيوتر الأكثر سرعة في المنطقة، والأكثر قدرة على الاستيعاب وتقديم فرص الاستفادة مما تختزن من كنوز معلومات وتسهله في العمل البحثي.
وفي جانب آخر، فإن الشركات والمؤسسات بدأت تتسابق على الجامعة لمتابعة أعمالها وإنتاجها من خلال باحثيها وعلمائها لتستفيد من إنجازاتهم واختراعاتهم وأفكارهم بهدف استثمارها. من هنا تأتي الرؤيا المتكاملة. علم وبحث وإنتاج واستخدام له في مصانع ومؤسسات وشركات كبرى وبالتالي تأمين اكتفاء ذاتي وتوفير فرص عمل وتعزيز للاقتصاد وتحفيز على العلم والبحث والاستفادة من العلوم والتقنية.
إنه المشروع الإنتاجي الأهم في المنطقة، الذي يؤكد لمن يريد في الغرب استهداف العقول العربية الإسلامية واستهداف العلماء، أو استخدام تلك العقول وهؤلاء العلماء، أن ثمة فرصة عربية إسلامية حقيقية لإفساح المجال أمام العلماء للبحث والعمل بحرية وكرامة وهم في الوقت ذاته سيثبتون قدراتهم وإمكاناتهم بما يسقط كل محاولات التزوير والتضليل التي تقوم بها إسرائيل وأجهزة ومؤسسات حليفة أو تابعة لها تدعي أن العرب غير قادرين وأنهم يستخدمون أموالهم في مشاريع غير منتجة.
منذ عقدين من الزمن تقريباً قال مسؤولون إسرائيليون: نحن لدينا العقول والأفكار والمشاريع. والعرب لديهم المال واليد العاملة. وبإمكاننا أن نتكامل ونعمل معاً. سمّيتُ هذا المشروع مشروع "السخرة" أي إنهم يريدون أن نعمل لديهم في مشاريعهم التي نمولها بمالنا.
"جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية" تثبت أن لدينا المال والعقول والأفكار والمشاريع التي ستأخذها وتستفيد منها الشركات العالمية الكبرى وبالطبع الشركات العربية والإسلامية، لكننا نحن اليوم من يعطي الأفكار والمشاريع للإنسانية كلها. ولسنا في مشروع سخرة عند الآخر بل تسخر إمكاناتنا لخدمة الإنسان أينما كان.
هذا المشروع يشكل نموذجاً لإرادة التحدي والاستمرار بالعلم والمعرفة والثقافة وهو نوع من المقاومة إن لم نقل المقاومة المستدامة. إنها المقاومة بالفعل والعقل والعلم والمعرفة والتقنية وهو أمر لا يمكن إيقافه.
وفي جانب آخر من المشروع ملاحظة مهمة وهي التنوع في الجامعة. الاختلاف الإنساني. فلا تفرقة لا على مستوى الطلاب والطالبات ولا على مستوى الانتماءات الطائفية أو المذهبية. الأساس والمعيار والهدف هو العلم. والعلم فقط.
شكراً للحكيم الملك عبد الله بن عبد العزيز على هذا الإنجاز، وعلى إتاحة هذه الفرصة للباحثين العرب والمسلمين وغيرهم من كل أقطار العالم في تجسيد راقٍ لمفهوم الإنسانية وتقدير العقل