الدولة الجميلة... الضعيفة!
للأسف... أجمل الأشياء في الكون أضعفها؛ الغزال حيوان فاتن قوامه، لكنه مع هذا ضعيف جداً، لذا فهو صيد متاح للحيوانات المفترسة السريعة وللإنسان ذي البندقية التي لا تفرق بين الجمال ونقيضه.
أجمل الطيور هي أضعفها كذلك، هل سمعتم صوت النسور والعقبان والبوم والوطواط؟
قصيرة العمر هي أجمل وأطيب الزهور والورود.
المخترعون والمكتشفون والعلماء والأدباء وأصحاب الفنون الراقية، أبعد الناس عن الأناقة وحسن المظهر.. إنهم ضعفاء، أسلحتهم فرشاة الرسم والقلم وأدوات المختبرات والعزيمة القوية الصادقة، والرغبة في منفعة البشرية، ترك هؤلاء القوة والسلاح وأدوات الإجبار والعنف، للأقوياء المليئة أرواحهم -وأحياناً أشكالهم- بالقبح والبشاعة.
الدول لا تشُذ عن هذه القاعدة، لبنان الجميل بجباله وبحره وغاباته وأنهاره ومكتباته ومتاحفه وجامعاته ومطاعمه ومشاربه وثقافات الغرب والشرق الممتزجة على أرضه، هو ضعيف جداً في ذات الوقت في نسقه الاجتماعي ونسيجه السياسي الداخلي.
قبل أيام أعجبني أحد المتحدثين اللبنانيين وهو يتحدث في برنامج عن لبنان، عندما سُئل عن توقعاته للحرب القادمة بين بعض لبنان وإسرائيل.. متى وكيف؟
استهل إجابته بهذه الكلمات الفلسفية ذات المغزى العظيم.. يقول: "كل شيء في هذه المنطقة غالٍ: البترول والممرات المائية، والمواقع الاستراتيجية، ومخزونات المعادن فيها، كذلك أسواقها وأدمغة علمائها ممن أُتيحت لهم الفرص للإبداع، شيء واحد رخيص جداً في هذه المنطقة هو: لبنان، الذي يمكن أن تتم على أرضه تصفيات الحروب الباردة والساخنة، ومناوشات الاستخبارات العالمية ولعبة القوى الإقليمية.
هو يدفع ثمن سلام الأقوياء وحروبهم كذلك، منه تنطلق أول صواريخ المواجهات، وعلى أرضه تصمت آخر المدافع التي تحارب قضايا ليست بقضاياه البتة.. للأسف".
صدق الرجل!
هل تدرون كم شهد لبنان من الحروب في أقل من ثلاثين عاماً؟
ثلاث حروب إسرائيلية كبرى، غير الحروب الصغيرة؛ وحرب داخلية استمرت من 1974 وحتى 1990، وبين تلك الحروب مع الخارج والداخل هناك توترات عالية بين الطوائف والمذاهب والمكونات الدينية والعرقية الأخرى، قد تصل في بعض السنين لاحتلال مناطق وتهجير سكان وعقد عشرات اللقاءات والمؤتمرات لفض النـزاعات التي يصنعها الغير وينفذها أهل البلد الجميل.. الضعيف، المظلوم من فُرقاء النـزعات العالمية والإقليمية.. ومن بعض أهله.
الذي لا يعرفه بعض الناس هو أن اللبنانيين الذين يعيشون خارج لبنان يمثلون سبعة أضعاف أعداد اللبنانيين داخله، ولم تأتِ تلك المفارقة السكانية عبثاً، بل جاءت بعد هجرات لبنانية إلى أفريقيا والأميركتين هرباً من الحروب الداخلية والأهلية، والمجازر والتهجير الذي يقوم به بعض لبنان الجميل الضعيف تجاه البعض الآخر.
قرأتُ قبل أيام كتاب مذكرات لسياسي لبناني مخضرم شغل عدة مناصب رئيسة في لبنان، هذا السياسي العتيق يجمع بين انتسابه المذهبي الذي يمثل ركيزة (الممانعة) والمتناقِض مع واقع مصاهرة أسرة تحسب على جماعة (المسالمة)، مع العلم أن تلك التسميات زئبقية أملتها ظروف آنية يمكن أن تتبدل حسب الحالة اللبنانية في أي لحظة.
يقول السياسي اللبناني وهو يتذكر شيئاً من الأشياء التي حدثت في لبنان أثناء الحرب الأهلية.. يقول: "كانت تحصل عندنا حالات ظلم وإجحاف واعتقال، فمثلاً مالك يريد أن يسترجع محله، يرشو أحد المتنفذين بمبلغ من المال الذي يتهم شاغل هذا المحل (المستأجر) بالعمالة لإسرائيل، أو أنه يتعاون مع (القوات)، أو أنه يعطي إحداثيات عسكرية للأعداء، فإذا رفض إعادة هذا المحل فإنهم يقومون بتصفيته وإنهائه"!
هكذا كان يحدث في البلد الجميل.. الضعيف، ويمكن أن يحدث مستقبلاً إن توافرت عوامل وظروف ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية.
كل شيء في تلك الأيام مستباح.. سوى شيء واحد اتفق عليه كميثاق (شرف) أطراف النـزاع في تلك الأيام، الذين لا يزالون أطراف النـزاع هذه الأيام مع تبدل الأسماء والأشكال قليلاً حسب قانون الزمن ليس إلا.
أتدرون ما هو؟
إنه ليس شجرة الأرز، ولا بيئة البحر، ولا ثلج الجبال، ولا طير لبنان وأنهاره وينابيعه.. إنه ذهب لبنان في البنك المركزي، وسرية المال النظيف والنجس منه على حدٍ سواء، وسلامة عمائر البنوك وخزائنها وملفاتها المصرفية.
ما هو دليلي على ما كان يحدث في البلد الجميل.. الضعيف؟
لنسترجع كلام نفس السياسي اللبناني المخضرم الوارد في كتابه الصادر كطبعة أولى في يناير سنة 2007:
"كان يوجد في لبنان خطان أحمران أثناء الحرب الأهلية، الجميع احترم هذين الخطين.. وهما سرية المصارف والذهب، لم يحصل لأي مصرف من المصارف أن سُرق أو أُحرق، أو أُخذ أحد كشوفات الحسابات وأُعلن عنها، يعني كأنه كان هناك اتفاق على أن هذه من مقومات لبنان الاقتصادية ويُمنع المساس بها"!
آلاف القتلى وتدمير بالجملة للممتلكات والحاضر والمستقبل اللبناني، وشيء واحد اتفق عليه المتقاتلون في البلد الجميل والضعيف: المصارف والذهب في البنك المركزي!
منتهى السخرية أليس كذلك؟
منذ أزمة العثمانيين مروراً بالفرنسيين وسنوات الاستقلال إلى يومنا هذا، مروراً بكل عقود الحرب الخارجية والداخلية التي أحد أطرافها لبنان، لم يُعقد اتفاق صُلح واحد في لبنان، أوكل اللبنانيون قدرهم ومستقبلهم وشأن الموت بالجملة وإعمار ما هدمته الحروب، وحتى المحاصصة الوزارية، كلها جعلوا مهمات تنفيذها للآخرين وعواصمهم.
جلستُ كثيراً مع أدباء وباحثين وعلماء لبنانيين لا يقل مستواهم العلمي عن نظرائهم في الغرب وأقصى الشرق، فوجدتهم خزائن علمٍ ومعرفة وثقافة، لكنهم سرعان ما يعودون في أحاديثهم إلى خنادق الطائفية والدينية وهواهم السياسي، ساعة انخراطهم في حديثٍ سياسي يستفز نعرتهم القديمة الموروثة من جينات الآباء والأجداد، فإذن هم والحال كهذا لا يقلون خطراً على أنفسهم وعلى بلدهم الجميل الضعيف من خطر حامل الرشاش وزارع القنبلة الموقوتة.
شيء واحد يفرق ضعف الحيوانات والطيور عن الإنسان: معرفة موطن الضعف واللجوء إلى حيل البقاء في صراع الفناء أو الحياة، لكن أُناس البلد الجميل الضعيف يعرفون مواطن الجمال في بلادهم، وموطن الضعف في نفس الحيز من الأرض، لكنهم شركاء كذلك في تقبيح الجمال، والدلالة على مواطن ضعف هذا الجمال، وهم في بعض الأوقات سهم ورمح ومدفع الصياد ونصف الخبير، الذي أناط بأهل البلد الجميل الضعيف تكملة نصف خبرته الآخر!