خنق القدس وهدم "الأقصى"!
عندما دخل "الإسرائيليون" مدينة القدس القديمة عام 1967 رفع جنود الاحتلال العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة، داخل حرم المسجد الأقصى، وسارع حاخامات صهاينة لدخول منطقة الحرم. وقد كشف عوزي نركيس قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي بعد ثلاثين عاماً من الحرب أنّ الحاخام شلومو غورن، كبير حاخامات الجيش، اقترح يومها، وضع 100 كغم من المتفجرات فيما أسماه مسجد عمر (ويقصد به قبة الصخرة)، ليتم الانتهاء سريعاً من أمره. ولكن نركيس رفض بشدة، وألح غورن بأن هذه لحظة ثمينة، لن تتكرر، وعلى أن القيام بذلك في اليوم التالي لن يكون ممكناً. وبحسب رواية نركيس، فقد هدد غورن بالسجن، إذا لم يتوقف عن محاولاته. ويعلّق جندي متشدد، آخر، أصبح رجل دين لاحقاً، أنّه أوكلت إليه حراسة بوابة قبة الصخرة، يومها، وأنّه كان يعتقد أن مهمته حماية المكان إلى حين وصول المهندسين لإزالة القبة.
وقتها كان رافضو الهدم طرفين داخل إسرائيل، أولهما يمثله سياسيون وعسكريون من نوعية موشيه دايان، وزير الدفاع حينها، الذي أمر من ضمن أمور أخرى بعدم رفع العلم الإسرائيلي على المقدسات الإسلامية. وكان سبب معارضته الخوف من رد فعل العالمين الإسلامي والعربي من جهة، والثاني أنّه كان يفكر في تسوية تقوم على أن يجري الاعتراف لليهود بالسيادة في منطقة حائط المبكى (البراق) والحي اليهودي، بينما تبقى المقدسات الإسلامية والمسيحية بأيدي أهلها.
وكان الطرف الآخر المعارض هو الحاخامات غير الصهاينة، وهم الذين كانوا الأقوى في المجتمع المتدين اليهودي حينها، الذين لا يؤمنون بشرعية قيام الدولة العبرية في الوقت الراهن، ويؤمنون بأن بناء الهيكل المقدس ينتظر علامات منها ظهور المسيح.
وما يحدث الآن يتضمن مؤشرات واضحة على اختفاء مثل هؤلاء وأولئك الرفضين. فنتنياهو شخص يعتمد كثيراً على دعم حلفائه (ومنافسيه في الوقت ذاته) من القوى الصهيونية العلمانية اليمينية والدينية المتطرفة، وهو يسعى بكل المقاييس إلى إحداث تحول تاريخي ضخم. والقوى المتشددة الأرثوذكسية أصبحت قوى صهيونية، وأهم مثال هو حركة "شاس" التي لم تكن صهيونية فعلا (أي لا تولي الشأن السياسي وقضايا السيادة اهتماماً كبيراً) حتى وقت قريب، وهو ما اختلف كليّاً الآن.
إن ما يجري الآن يمكن وصفه بأنّه نوع من "المضحك المبكي"، فقبل سنوات سمعنا من أدعياء "الجهاد" الإسلاموي أنّهم يتعاملون مع فلسطين وفق حلقات ثلاث تضيق شيئاً فشيئاً من قتال الأعداء البعيدين إلى قتال الأعداء المحيطين بفلسطين وصولا لفلسطين (وعلى رغم أنّه لحسن حظ الفلسطينيين أنّ هؤلاء الأدعياء غير جادين وبعيدون عنهم)، فإنّ ما يحدث هو أنّ نظراءهم من الصهاينة المتطرفين يسيرون في ذات الطريق، ولكنهم "ينفذون ولا يقولون". فهم في مطلع التسعينيات بدؤوا حلقة أولى من خنق مدينة القدس بفرض حصار عليها يمنع دخول العرب من أهالي مدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة للمدينة، وتم بناء سور يحيط المدينة لاحقاً لتكريس الخنق. ثم جاءت الآن المرحلة الثانية وهي إغلاق المدينة القديمة التي تبلغ مساحتها نحو كليو متر مربع واحد والعمل على طرد الفلسطينيين منها، بما يؤدي لحدث تاريخي هائل، ويتم الآن إقفال أبواب هذه المدينة، بدءاً من إقفال أهم أبوابها وأكثرها حيوية للتجارة وللسكان، أي باب العامود (الذي دخل منه صلاح الدين الأيوبي لتحرير المدينة من الصليبيين) في حلقة ثانية، تجعل الحلقة الثالثة، أي هدم الأقصى وقبة الصخرة ومقدسات أخرى وخنق كنيسة القيامة، مجرد تحصيل حاصل.