اغتيال المبحوح... الجريمة والعقاب
منذ أن وقعت جريمة اغتيال المبحوح في أحد فنادق مدينة دبي، انصبّت الاهتمامات العربية والدولية حول أمرين اثنين. الأمر الأول هو إثبات التهم الموجهة الى إسرائيل بارتكاب الجريمة، والأمر الثاني هو الكشف عن عملية استخدام جوازات سفر دول غربية لتغطية دخول وخروج القتَلة من عملاء الموساد الإسرائيلي من وإلى دبي.
إلا أن هناك أمرين آخرين لم يحظيا بالاهتمام الكافي. أولهما نجاح أجهزة الأمن في دبي في الكشف عن مرتكبي الجريمة بالأسماء وبالصور، وتداعيات هذا الكشف سياسياً. أما الثاني فهو الكشف عن تورّط فلسطينيين قدِما من الأردن في عملية الاغتيال.. ومعنى هذا التورط.
أن ترتكب إسرائيل جريمة قتل بحق أحد النشطاء الفلسطينيين فليس ذلك بالأمر الجديد، ولا هو بالأمر المفاجئ. فالاستخبارات الإسرائيلية لا تتورع عن ارتكاب مثل هذه الجريمة في أي وقت وفي أي مكان. وأمام هدف التخلّص من هؤلاء فإن إسرائيل لا تراعي حرمة لدولة، ولا لقانون. وطالما أن المجتمع الدولي لا يحاسب إسرائيل ولا يسائلها، فإنها لا تجد غضاضة في ارتكاب الجريمة تلو الأخرى. فهي تكافئ منفذي هذه الجرائم سياسياً ومعنوياً. فوزير الدفاع الإسرائيلي الحالي كان أحد القتَلة الذين اغتالوا في تونس مجموعة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية كان من بينهم "أبو جهاد". وقبل ذلك كوفئ منفذو "عملية فردان" في بيروت، نسبة إلى الشارع الذي كان عدد من القادة الفلسطينيين الذين قُتلوا في بيوتهم يسكنون بجواره.
ومعروف عن شامير رئيس الحكومة الأسبق أنه كان المسؤول عن عملية نسف فندق الملك داود في القدس.. كما أن بيغن أحد قادة منظمة "الهاغانا" الإرهابية، كان وراء مخطط اغتيال المبعوث الدولي الكونت برنادوت في مدينة القدس. وفي الوقت الذي كانت فيه ملابسات جريمة اغتيال المبحوح تتوالى فصولاً في العالم على خلفية فضح منفّذيها، كانت إسرائيل تكرّم في برلمانها -الكنيست- 12 عضواً من أفراد عصابتي "إيتسل" و"ليحي" الإرهابيتين الذين قتلوا بدم بارد في عام 1948 مجموعة من العائلات الفلسطينية ضمّت رجالاً ونساءً وأطفالاً، داخل سيارة أوتوبيس؛ وكان الإرهابيون قد كمنوا للسيارة وأمطروها بالرصاص، ثم أضرموا النار فيها، ولم يخرج منها ناجٍ واحد. واليوم تتعامل إسرائيل مع ذلك العمل الإرهابي على أنه عمل بطولي، وتكرّم الذين قاموا به وتغدق عليهم -على لسان رئيس حكومتها ورئيس برلمانها- كل أنواع التكريم والتبجيل! واستمراراً لهذا السلوك الإجرامي، كانت الحرب على غزة 2008، وقبلها الحرب على لبنان 2006، وكانت سلسلة الجرائم الجماعية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية وجنوب لبنان على مدى العقدين الماضيين.
فقد اغتالت إسرائيل عدداً من قادة "حزب الله" في لبنان واستخدمت في ذلك إما سلاح الطيران.. أو سلاح العملاء المحليين. غير أن الجريمة التي كانت دبي مسرحاً لها هي الوحيدة التي يكشف الأمن العربي المحلي عن أسماء وعن وجوه أصحابها. كما أنها كانت الجريمة الوحيدة التي يكشف المحققون في دبي أسماء الدول التي استخدمت جوازات سفرها لدخول دبي والخروج منها. وهذا إنجاز أمني- سياسي يستمد أهميته من أنه كشف عن أسماء وصور العملاء المجرمين، وكشف عن أسماء الدول التي استخدمت جوازات سفرها في الجريمة. وبالتالي وضع البوليس الدولي -الإنتربول- أمام مسؤولية لا يستطيع أن يتهرّب أو أن يتردّد في أدائها، وهي ملاحقة المتهمين وسوقهم إلى العدالة.
كما أنه وضع الدول صاحبة جوازات السفر وجهاً لوجه أمام حقيقة ساطعة وهي أن إسرائيل كدولة إرهاب تستبيح حرمة دول كبرى (مثل أستراليا وفرنسا وبريطانيا وإيرلندا) وتنتهك القانون الدولي؛ وكان قائد عام شرطة دبي على حق عندما قال إنه "من المعيب والمشين والمخجل في حق الدول الأوروبية أن تعبث دولة تدّعي أنها دولة قانون بجوازات سفرها. هذه ظاهرة غير مسبوقة أن تزوّر دولة وثائق دول أخرى. إنه عمل عصابات إجرامية وليس دول".
وبذلك وضعت إسرائيل مواطني هذه الدول من حيث لا يريدون في موضع الشك والريبة أمام أجهزة الأمن لدى قيامهم بزيارة أي دولة عربية، سواء للعمل أو للسياحة. وأصبح يُنظر إلى الزائر الغربي، وحتى المواطن العادي حامل الجواز على أنه قد يكون عميلاً إسرائيلياً محتملاً، أو أنه قد يكون مكلفاً بارتكاب جريمة اغتيال أو أي عمل تخريبي آخر.. حتى يثبت العكس.
ولعل دول مجلس التعاون الخليجي هي أكثر الدول العربية قلقاً من جراء تداعيات هذه الجريمة الإسرائيلية ببعدها السياسي والمتمثلة في انتهاك حرمة الدول صاحبة الجوازات المستخدَمة في جريمة اغتيال المبحوح. فمنذ وقوع جريمة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن تحمل الإسلام زوراً وبهتاناً وزر تلك الجريمة المنكرة، أصبح كل مسلم موضع شك أو شبهة لدى مثوله أمام دوائر الأمن الأميركية وخاصة في المطارات. واليوم يخشى أن يصبح كل غربي موضع شك أو شبهة لدى مثوله أمام دوائر الأمن العربية بعد الجريمة المنكرة التي استخدم فيها الموساد الإسرائيلي جوازات سفر عدد من هذه الدول. إن من شأن هاتين السلبيتين تعميق الهوة بدلاً من ردمها.
أما عن تورّط الشخصين الفلسطينيين فإن هذا الأمر يطرح علامات استفهام كبيرة، من الحقيقة الثابتة التالية، وهي أنه لا يوجد شعب تعرّض للاضطهاد والتشريد والتعذيب على يد شعب آخر، كما تعرّض الشعب الفلسطيني على يد الشعب الإسرائيلي، فكيف يتحوّل الفلسطيني المضطهَد (بفتح الهاء) إلى عميل للإسرائيلي المضطهِد (بكسر الهاء)؟
إن صورة اللاجئ الفلسطيني الذي يعمل لحساب مخابرات "الشاباك" الإسرائيلية بشعة، على النحو الذي كشفته قضية المشاركة في اغتيال المبحوح في دبي، أو مشاركة لاجئ فلسطيني في الكشف عن العمليات التي كان يعدّها مقاومون فلسطينيون ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، قبل تنفيذها. فقد أدّت تلك الخيانة ليس فقط الى تعطيل العمليات الفدائية، وإنما أدّت كذلك إلى تمكين القوات الإسرائيلية من اعتقال البعض والزجّ بهم في غياهب السجون حيث تلقوا أشدّ أنواع التعذيب.
وإمعاناً في التشهير فإن إسرائيل تعمّدت نشر مذكرات عميلها اللاجئ الفلسطيني الذي وظّفته طويلاً.. قبل أن تنقله إلى الولايات المتحدة للإقامة تحت حماية صهيونية أميركية، مكافأة له على خيانته لقضيته الوطنية أو على وفائه للعدو الذي يفتك بأهله وببني قومه!
إن الخيانة الوطنية من أجل تحقيق مكاسب مادية جريمة لا تغتفر. فكيف إذا كانت الخيانة تعبيراً عن الولاء للمحتلّ المغتصب، وللعدو القاتل؟ وكيف إذا كان فعل الخيانة يتطلّب تنفيذ عمليات تستهدف وطنيين مناضلين؟
على أن السؤال الأهم هو: لماذا تستطيع إسرائيل أن تخترق المجتمع العربي وخاصة عبر دول مثل لبنان وفلسطين وهما الأكثر تعرّضاً للعدوان الإسرائيلي المستمر حيث تجد عملاء يهود يعملون لمصلحة أجهزتها الاستخبارية.. ولا تستطيع الدول العربية اختراق المجتمع الإسرائيلي لتوظيف عملاء يعملون لمصلحة أجهزة الاستخبارات العربية؟ هل لأن المجتمع الإسرائيلي القائم على الاغتصاب والإرهاب محصن ضد الاختراق.. فيما المجتمع العربي الذي يعاني من العدوان والاحتلال، فاقد لمثل هذه الحصانة؟ وهل قوة الولاء للدولة (حتى ولو كانت دولة مغتصِبة) يشكل جدار الحصانة الذي تتمتع به؟ وبالتالي، هل إن ضعف الولاء للدولة، (حتى ولو كانت على حق) يشكل الثغرة التي تسهل للعدو عملية التسلل؟
لقد عانى لبنان مثلاً، ولا يزال يعاني من اختراق جهاز الموساد لسياجه الأمني، حتى وصل الاختراق إلى الجيش اللبناني ذاته. ويحدث ذلك على رغم كل الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق لبنان وشعبه. فكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة الخطيرة.. وبالتالي القضاء عليها؟
يعرف الذين تعاملوا مع إسرائيل طوال سنوات احتلالها للجنوب اللبناني من عام 1978 حتى عام 2000، كيف تخلّت القوات الإسرائيلية عنهم وتركتهم تحت رحمة المقاومة اللبنانية. فالعميل أياً كان شأنه هو بالنسبة لإسرائيل كالليمونة، يُعصر ثم يُلقى في سلة المهملات. ذلك أن إسرائيل تدرك تماماً أن العمالة هنا هي نوع من الاسترزاق الرخيص وليست التزاماً بقضية مبدئية. فهل يدرك العالم الآن أن إسرائيل، التزاماً منها بقضيتها، تستبيح ليس فقط جوازات سفر دول غربية.. ولكنها تنتهك أمن دول عربية.. وحياة الأبرياء والمناضلين؟!