هل يرى أوباما "ما وراء الأفق"؟
نظراً لتركيز الولايات المتحدة الشديد على المواجهة مع جماعات الإسلام السياسي المسلحة، وخصوصا في جنوب غرب آسيا (أفغانستان، والعراق، وإيران) يمكن لنا التماس العذر للجمهور الأميركي، إذا لم ير الطيف الكامل للتحديات الأخرى -العسكرية وغيرها- التي تكمن "وراء الأفق".
فنتيجة لأننا مغمورون بحمل زائد من المعلومات، فإننا نجد أنفسنا مسكونين بتهديد واحد مثل إرهاب "القاعدة"، غافلين عن المواقع الأخرى التي تختمر فيها المتاعب.
في مثل هذا الشهر منذ ثمانية وعشرين عاماً، كنت ومعى معظم زملائي من مراسلي الوكالات الأجنبية المقيمين في بيروت نجلس في انتظار الغزو الإسرائيلي الوشيك للبنان والذي كان الجميع يتوقع أنه سيقضي على ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية. وكان كل ما ينتظره الجميع حتى يبدأ ذلك الغزو، هو جفاف الأراضي اللبنانية التي تتحول في الربيع إلى مستنقعات طينية حمراء تعوق تقدم الدبابات الإسرائيلية من طراز "ميركافا"، التي كانوا يعرفون أنها لا تستطيع العمل في مثل هذه الظروف. لكن الذي حدث في ذلك الوقت أنه، وفي الثاني من إبريل 1982، تلقيت استدعاءً من المسؤولين عن ديسك الأخبار في إذاعة الـ"بي. بي. سي" الذين أخبروني أنه عليّ أن أستقل أول طائرة إلى لندن، لأن الأرجنتين غزت جزر الفوكلاند، وبريطانيا سوف تشن حرباً من أجل استردادها. وعندما أخبرت زملائي عن ذلك، تساءل بعضهم: وأين تقع جزر الفوكلاند هذه؟
فيما بعد، قررت أن أطلق على هذه الواقعة "عامل فوكلاند"، وأقصد به تلك المفاجآت غير المرئية التي تقفز فجأة لتصفعك على خدك، وتجر الدول إلى الحروب. لنتذكر هنا ما حدث في سراييفو عام 1914 كمثال على ذلك. وفي مقال سابق شرحت السبب الذي جعل من المنطقة القطبية، بما فيها من احتياطيات هائلة من النفط والغاز الطبيعي تحت سطح البحر، تتحول إلى منطقة قابلة للاشتعال. كذلك، قد لا يمضي وقت طويل حتى تجعلك المانشيتات تتساءل: "أين يقع مضيق "ملقا"؟ ويذكر أن مضيق "ملقا" هو شريان مهم في المحيط الهندي تمر عبره معظم واردات الصين من الطاقة اللازمة لتشغيل اقتصادها النامي، ولو تم إغلاقه فسوف يترتب على ذلك توقف الاقتصاد الصيني برمته.
وفي الوقت الراهن تنخرط الصين في بناء سلاح بحري قوي، كما يتوقع أن تقوم منافستها الإقليمية، الهند، ببناء ثلاث غواصات تعمل بالطاقة الذرية وثلاث حاملات طائرات قبل عام 2015، وهو ما سيحول المحيط الهندي إلى منطقة حافلة بالنقاط الملتهبة.
وليست كافة الأخطار غير المرئية من النوع العسكري. فالتداعي الاقتصادي الذي حدث في العام الأخير من ولاية بوش الابن، أضعف الولايات المتحدة وألحق بها من الأضرار أكثر مما فعلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والإسلام الراديكالي معاً. ويمكننا القول بشكل مباشر إن الركود الكبير قد أنهى وضع أميركا كقوة وحيدة في هذا العالم.
وفي كلمة له ألقاها أمام جامعة الدفاع الوطني، تحدث وزير الدفاع الأميركي، جيتس، عن همومه العسكرية والاقتصادية التي يمكن رؤيتها "وراء الأفق" حيث قال إن امتناع أوروبا عن الوفاء بالتزاماتها تجاه حلف "الناتو" يمثل "إغراء بارتكاب أخطاء في التقدير ومن ثم العدوان من جانب قوى معادية غير محددة".
والمعنى الضمني الكامن في ملاحظاته، هو أنه طالما ظل بوتين شخصية مركزية وسط صناع السياسة في موسكو، فإنه سيظل عنصر إزعاج لأميركا.
وحذر وزير الدفاعي الأميركي في كلمته أيضاً من أن "نزع سلاح أوروبا -حيث تتبنى قطاعات واسعة من الجمهور والطبقة السياسية موقفا مناوئا للقوة العسكرية والأخطار التي ترافقها- قد انتقل من كونه نعمة في القرن العشرين إلى نقمة تعوق تحقيق الأمن والسلام الدائم في القرن الحادي والعشرين".
وما يقوله الجنرال الأميركي يجد مصداقاً له في حقيقة أنه على امتداد حدود أوروبا المحاذية لبحر البلطيق والبحر الأسود، هناك حالياً ما يقرب من 12 نقطة اشتعال محتملة مع روسيا قد يكون حلفاء أميركا الأوروبيون غير مبالين بمواجهتها.
وفي هذا السياق يمكن القول إن الرغبة الفرنسية في بيع بارجة بحرية متقدمة من طراز "ميسترال"إلى روسيا، يمثل مشكلات خطيرة. فهذه المدمرة القادرة على حمل الطائرات المروحية والدبابات، تمثل سلاحا نموذجا وحاملة قوات يمكن لروسيا استخدامها لإرهاب جيرانها في البلطيق والبحر الأسود. للتدليل على ذلك يمكننا الإشارة هنا إلى ما نقل عن بوتين خلال زيارة قام بها في الآونة الأخيرة إلى باريس، وهو: "استطيع أن أؤكد لكم إننا إذا ما اشترينا هذه الأسلحة فسنستخدمها في أي مكان نعتبره ضروريا".
واستثمارات الصين في الحرب المعلوماتية والفضائية ضد القوات المسلحة الأميركية المعتمدة بشكل كامل على استخدام الكمبيوتر، يمكن أن تصبح أسوأ كابوس يتهدد البنتاجون. فمما يشار إليه في هذا السياق أن الجواسيس الصينيين والروس قد اخترقوا شبكة أميركا الكهربائية، وأن القراصنة المعلوماتيين" الهاكرز" الصينيين قد أعدوا بالفعل خطة لشل حركة أسطول الولايات المتحدة من حاملات الطائرات، وفقا لمقال نشر في"سيتي جورنال".
ينتخب الأميركيون الرؤساء كي يهتموا بمثل هذه الأشياء، ومن أفضل الرؤساء الأميركيين الذين تولوا مناصبهم في أوقات الحروب لنكولن وروزفلت اللذان لم يكونا من الجنرالات المحترفين وذوي البزات العسكرية، كما لم يكونا من الخبراء العسكريين، بل كانا رجلين اتسمت سياساتهما في أثناء الحروب بالمعرفة والحكمة معا.
في الوقت الراهن يتبارز أوباما مع إيران، كما يخوض في الآن ذاته حربين ورثهما عن الإدارة السابقة. ونحن لا نعرف متى تنتهي تينك الحربان الطويلتان، لكن مما لاشك فيه أن تلك الدراسة الطويلة والحريصة التي قامت بها الولايات المتحدة قبل أن تقرر زيادة عدد قواتها ونشاطها العسكري هناك، تمثل على الأقل علامة مشجعة تدل على أنها إذا ما قررت في النهاية التصدي للأخطار الكامنة "وراء الأفق"، فإن ذلك لن يتم بتلك الصورة التلقائية السيئة التخطيط والتدبير التي تمت بها الحربان المذكورتان والتي أدت إلى خلق أعداء أكثر من هؤلاء الذين قضت عليهم، وكبدتها من الخسائر ما لا تطيقه.
والتر روجرز
محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"