يتوافق اليوم، الثاني والعشرون من شهر مارس، مع المناسبة السنوية لليوم العالمي للماء (World Water Day)، الذي يحل كل عام في مثل هذا التاريخ. وتأتي فعاليات وأنشطة هذا العام -مثل الأعوام السابقة- في ظل تراجع حصة كل فرد من أفراد الجنس البشري من المياه الصالحة للشرب، وهو ما أدى بالتبعية إلى زيادة الاعتماد على المياه الملوثة، مما نتجت عنه أيضاً بالتبعية زيادة مماثلة في مدى انتشار الأمراض المنقولة بالماء (Waterborne Diseases). وهذه الطائفة من الأمراض، تنتج عن العدوى بجراثيم مرضية، تنتقل إلى جسم الشخص بشكل مباشر عند استهلاكه لمياه ملوثة. وهذه الجراثيم إما أن تكون بكتيريا كما هو الحال مع مرضي الكوليرا والدوسنتاريا، أو أن تكون فيروسات كما هو الحال مع مرضي التهاب الكبد الفيروسي (أ) أو شلل الأطفال، ويمكن أيضاً أن تكون نتيجة طفيليات مثل الأميبيا، أو ديدان مثل البلهارسيا والإسكارس، وغيرها كثير. وهذا التنوع الهائل، والتعدد الكبير لأنواع طائفة الأمراض المنقولة عن طريق الماء، يجعل توافر المياه النظيفة الصالحة للشرب، ونظم الصرف الصحي الجيدة والفعالة، ومجال إمدادات وإدارة المياه بوجه عام، أحد أهم أعمدة النظم الصحية المحلية، والدولية، على صعيد تجنب الأمراض المعدية والوقاية منها. وهذا يتضح من حقيقة أن عشرة في المئة من إجمالي العبء المرضي الذي يرزح تحته أفراد الجنس البشري، من الممكن تجنبه ورفعه عن كاهلهم، من خلال الإجراءات والتدابير التي تعنى بإدارة مصادر المياه، وتوفير المياه الآمنة الصالحة للشرب، وبناء وصيانة نظم الصرف الصحي. وتحقيق هذه الأهداف سيؤدي بالتبعية إلى منع وفاة 1.4 مليون طفل سنوياً بسبب أمراض الإسهال، و500 ألف وفاة أخرى بسبب الملاريا، بالإضافة إلى 860 ألف وفاة بين الأطفال بسبب سوء التغذية الناتج عن سوء إدارة المصادر المائية الشحيحة في الكثير من مناطق العالم. وبخلاف الوفيات المباشرة، يمكن لتوفر مياه الشرب النظيفة، ونظم الصرف الصحي الحديثة، منع وتجنب تعرض خمسة ملايين شخص للإعاقة الشديدة بسبب ديدان الفلاريا، وخمسة ملايين آخرين بسبب التراكوما التي تصيب جفون العينين، وتؤدي إلى مضاعفات بصرية خطيرة. وهو ما يجعل الاستثمار في إمدادات مياه الشرب، ونظم الصرف الصحي، من أعلى الاستثمارات عائداً على الإطلاق، ليس فقط على الصعيد الصحي، بل على العائد الاقتصادي أيضاً، حيث تظهر الدراسات، أن كل دولار ينفق على إمدادات مياه الشرب ونظم الصرف الصحي، يحقق عائداً اقتصادياً بمقدار ثمانية أضعاف. ولذا تشير التقديرات إلى أن مبلغ 11.3 مليار دولار، وهو حجم ما يحتاجه العالم حالياً من استثمار لتحقيق أهداف الألفية على صعيد توفر مياه الشرب ونظم الصرف الصحي، سوف يحقق عائداً للاقتصاد العالمي، يبلغ ثمانية أضعاف، أو 84 مليار دولار. هذه الصورة العامة للتأثيرات الصحية والاقتصادية للأمراض المنقولة بالماء، تتضح بشكل أكبر من خلال النظر عن قرب إلى تفاصيل وتأثيرات بعض أعضاء هذه الطائفة المرضية. فعلى سبيل المثال، نجد أن أمراض الإسهال، وهي أمراض في غالبيتها منقولة بالماء، تعتبر هي السبب الثاني في الوفيات على الإطلاق حول العالم بين الأطفال الأقل من عمر خمس سنوات. ففي هذه الطائفة العمرية، نجد أن أمراض الإسهال تقتل 1.5 مليون طفل سنوياً، وتصيب ملياريْ طفل وبالغ كل عام. وبخلاف الوفيات المباشرة، نجد أن أمراض الإسهال تعتبر أحد أهم الأسباب خلف سوء التغذية بين الأطفال الأقل من سن خمس سنوات، حيث تصيب هذه الأمراض في الغالب من هم دون سن السنتين. ولذا فإن أمراض الإسهال تحتل مرتبة متقدمة جداً على قائمة أسباب الوفيات بين الأطفال، وربما لا يسبقها فيها إلا الملاريا، التي تلعب المياه أيضاً دوراً محورياً في انتشارها، من خلال توفير بيئة مناسبة لتوالد البعوض. وكما ذكرنا سابقاً، وبخلاف الوفيات المباشرة، تتسبب الأمراض المنقولة بالماء كذلك في أعداد هائلة من الإعاقات الشديدة، التي تحمل في طياتها ثمناً باهظاً، كما هو الحال مثلا مع ديدان الفلاريا. وتنتقل هذه الديدان من شخص إلى آخر، عن طريق لدغات الحشرات الماصة للدماء، مثل البعوض، وغيرها من الحشرات التي تتغذى على دماء البشر. ويستوطن المرض الناتج عنها، الذي يعرف أحيانا بداء الفيل، العديد من قارات ومناطق العالم المختلفة، حيث يقدر عدد المصابين به حالياً بنحو 120 مليون شخص، مع وجود مليار شخص آخرين في دائرة خطر التعرض للعدوى في أي وقت. وحسب نوع أو جنس الديدان، يختار كل منها الإقامة في واحد من ثلاثة أماكن في الجسم البشري: إما في الطبقة الدهنية تحت الجلد، وإذا ما وصلت إلى قرنية العين، تسبب ما يعرف بعمى النهر، الذي يحتل المرتبة الثانية ضمن قائمة أسباب فقدان البصر بين أفراد الجنس البشري. أو في التجويف الإحشائي للبطن، المحيط بالأمعاء وبقية أعضاء الجهاز الهضمي، ليسبب ما يعرف بالفلاريا الأحشائية. أو في الأوعية الليمفاوية المجاورة للأوعية الدموية، ليسبب داء الفيل، الذي يظهر في شكل زيادة سمك الجلد وتضخم الأطراف، أو تضخم الثديين لدى النساء، والخصيتين لدى الرجال. وهذه الأمثلة البسيطة والسريعة، تظهر مدى فداحة الثمن الإنساني والاقتصادي للأمراض المنقولة بالماء، وأولويتها كأحد أخطر مشاكل الصحة العامة على المستويين المحلي والدولي. د. أكمل عبدالحكيم