إن السؤال الجوهري الذي يلح على المراقبين حول معنى ودلالة الصراع الذي دار في كواليس حكومة شارون حول خطة الانفصال عن غزة والذي انتهى إلى تقليص الخطة ليصبح اسمها الرسمي المعدل خطة الانفصال المتدرج يجد إجابته في تراث ليكود السياسي على نحو عام وفي المبدأ الذي أطلقه بنيامين نتنياهو عندما كان رئيساً للوزراء على نحو خاص.
إن أحدث تجليات تراث ليكود السياسي تجاه الضفة الغربية وغزة يتمثل في نتائج الاستفتاء الذي أجراه شارون بين أعضاء الحزب حول خطته للانفصال عن غزة وتفكيك المستوطنات اليهودية بها. فلقد قررت غالبية الأعضاء أن الخطة مرفوضة وهو موقف رافض لفكرة سحب المستوطنين وإخلاء غزة لأصحابها، ويأتي متوافقاً مع إيديولوجية الحزب وسياساته المنتظمة في اعتبار الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 جزءاً من أرض إسرائيل. لقد حاول شارون أن يقنع أعضاء حزبه أن الصفقة التي توصل إليها مع الرئيس الأميركي بوش خلال زيارته الأخيرة لواشنطن صفقة جيدة بالنسبة لأطماع الحزب في إطار المقتضيات الدولية والإقليمية القائمة. ذلك أن رسالة شارون إلى بوش حملت تعهداً منه بالانسحاب من غزة وإخلاء المستعمرات اليهودية فيها مقابل اعتراف بوش في رسالته المقابلة لشارون بإمكانية قيام إسرائيل في التسوية النهائية بضم أجزاء الضفة الغربية التي أقيمت عليها المجمعات الاستيطانية على أساس مراعاة الواقع السكاني الجديد فضلا عن إقرار بوش المطلب الإسرائيلي حول عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ممتلكاتهم داخل حدود إسرائيل والاكتفاء بحل مشكلتهم بالعودة إلى دولتهم المقبلة. ومع ذلك فإن أعضاء ليكود تمردوا على الصفقة وفضلوا التمسك في الاستفتاء بتراثهم الإيديولوجي والسياسي. لقد حاول شارون رغم رسوب خطته في الاستفتاء تمريرها في الحكومة وإقناع الوزراء من حزبه وأحزاب اليمين الأخرى المشاركة بأن الجمهور لم يدرك أهمية صفقته مع بوش والمزايا التي تترتب عنها. ومع ذلك فإن الخطة تعرضت في مجلس الوزراء بقيادة نتنياهو لمقاومة عنيفة وأنذرت بتفكك الحكومة إلى أن أمكن يوم الأحد الماضي إعادة صياغتها وبرمجتها في شكل جديد كاد يفرغها من محتواها.
لقد نجح نتنياهو في قيادة قطاع من وزراء ليكود لتطبيق المبدأ السياسي الذي أطلقه عندما استلم السلطة بعد اغتيال رابين وهو مبدأ تكييف العرب على قبول سقف منخفض للتسوية. لقد أرسى نتنياهو هذا المبدأ السياسي كأسلوب ثابت في التفاوض وفي التقدم على طريق التسوية خلال رئاسته للوزراء ليعالج ما اعتبره تفريطاً من جانب سلفه رابين زعيم حزب العمل، وهو التفريط الذي تمثل عند نتنياهو في قيام رابين بتسليم السلطة الفلسطينية ما يسميه قلب إسرائيل أي مدن الضفة الكبرى. من وجهة نظر نتنياهو السياسية أن هذا الأسلوب المتساهل من جانب رابين في تطبيق اتفاقية أوسلو قد فتح شهية العرب عامة والفلسطينيين خاصة ورفع سقف توقعاتهم إلى حد غير معقول من وجهة نظره وهو استعادة الضفة وغزة بكاملهما لإقامة الدولة الفلسطينية تطبيقاً لمرجعية القرار 242. في ضوء هذا التراث الليكودي التوسعي وفي ضوء مبدأ نتنياهو يمكن للمراقبين فهم الصورة الجرداء التي خرجت بها خطة شارون للانفصال عن غزة من مجلس الوزراء الأحد الماضي، إلى حد أن إحدى عضوات الكنيست من معسكر اليسار ومن كتلة ميرتس - ياحد قد وصفت الخطة بعد تقليمها وتقليصها في مجلس الوزراء بقولها: إن الانفصال المخفض يشبه أرجل دجاجة لا تحمل من جسد الدجاجة إلا عرفها لكثرة الريش الذي تم نتفه ونزعه منها. إن هذا التشبيه لخطة شارون بعد اعتصارها في المجلس الوزاري يصور بدقة ما حاق بالخطة ويحقق بالضبط هدف تكييف العرب حتى لا يظنوا أن الحصول على جزء واحد من أرضهم المحتلة أمر سهل أو يمكن أن يتم دفعة واحدة أو عبر قرار وزاري واحد فتنفتح شهيتهم على ما هو أكثر. ويمكن لنا إذا ما رصدنا التنازلات التي فرضتها مجموعة نتنياهو على شارون أن نتبين أن تشبيه الدجاجة التي لم يبق منها سوى العرف هو تشبيه دقيق.
فقد أكدت الخطة الصادرة عن مجلس الوزراء أن التصويت الذي أجرته الحكومة لا يمثل ضوءا أخضر للبدء في الإزالة الفعلية للمستعمرات على عكس ما نصت عليه خطة شارون الأصلية. وكذلك نصت الخطة المعدلة على إلزام شارون بعدم إصدار أي إعلان رسمي حول إخلاء المستعمرات قبل شهر مارس 2005 . كذلك ألزمته الخطة بضرورة الحصول مسبقاً على موافقة من مجلس الوزراء على كل مرحلة من المراحل الأربع التي تنص عليها الخطة لإكمال الانسحاب من غزة حتى نهاية عام 2005. فضلاً عن كل هذا ألزمت الخطة المعدلة شارون بعدم تفكيك أية مستعمرة يتقرر إخلاؤها فيما بعد إلا بعد موافقة لجنة حكومية تختص ببحث ووضع معايير لتحديد المستعمرات التي سيتم البدء في تفكيكها وتعويض سكانها. هذا بالإضافة إلى وجود نص يوافق عليه شارون أصلاً وهو ينص على اعتزام إسرائيل الاحتفاظ ببعض أراضي الضفة بشكل دائم. ويمكننا في ضوء كل هذه التقليصات للجوانب العملية في خطة شارون للانسحاب من غزة أن نوافق