إذا كان أبو العلاء المعري قد ألزم نفسه ما لا يلزم من حدود الصياغة والقوافي ليرينا براعته البلاغية، فإنه خسر في اللزوميات فضاء الشاعرية، الذي كان يمكن له أن يحلق فيه طليقاً مما ألزم به نفسه، فصار محبساً ثالثاً له فوق محبس البيت وفقدان البصر، ولولا أنه في شعره المتحرر من لزوم ما لا يلزم، كما في (سقط الزند) قد أثبت شاعريته لاكتفينا من شعره بشواهد في دروس البلاغة المصطنعة. الأمر ذاته يكرره الإعلام العربي في بعض الدول العربية ولكن للأسف بدون عبقرية أبي العلاء، فهو يحبس نفسه في محبس رأي الدولة أو الحكومة، ويلزم ثوبه بأن يكون مفصلاً على المقاس الرسمي، وشعاره في ذلك (وما أنا إلا من غزيَّة إن غوت.. غويت)، بينما يفترض أن يكون الإعلام من الشطر الثاني فقط (وإن ترشد غزية أرشد)، بل إن عليه أن يرشد قبلها، وأن يدلها على طريق الرشاد لأنه يملك بصيرة الشعب بكل شرائحه وفئاته وآرائه المتنوعة الشاسعة. هذا على افتراض أن يكون دور الإعلام استشرافياً يسهم في رسم السياسات، وليس مجرد منفذ لما يملى عليه، فحتى لو كان ما يملى صواباً فإن من حقه أن يسهم في صياغته.
فإن لم يكن متاحاً للإعلام أن يلعب دور المستطلع الرائد الذي (لا يكذب أهله) فحسبه أن يلعب دور الند للسياسي، ما داما مشتركين معاً في المسؤولية، ولاسيما وقد أصبح الإعلام مسرح السياسة الدولية، وصارت استديوهات التلفزيون ومسارحه في الهواء الطلق، ملاعب الديبلوماسية الأرحب.
ويبدو أن بعض الحكومات تخشى أن يتسلل عبر حرية الإعلام مدسوسون ممن يمكن أن يبيعوا ضمائرهم، أو ممن هم انتهازيون (يميلون مع النعماء حيث تميل)، لا يملكون رأياً يدافعون عنه، ولا مبدأ يستبسلون من أجله. وليس بوسع أحد أن ينكر أن الساحة الإعلامية ملأى بهؤلاء الذين استفادوا من إطلاق حرية الإعلام في بعض الأقطار العربية أو في المهاجر، فجندوا أقلامهم وثقافتهم لصالح أعداء الأمة، وباتوا ينهشون في الجسد العربي، ويسخرون من تاريخ العروبة بل ينكر بعضهم حضورها كأمة، وبعضهم فاجأنا بكراهيته وحقده على الإسلام، فاستغل الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب ليشهر سكينه ويغرزه في وجدان أمته. ولا أحد بوسعه أن ينكر أن الإسلام هو وجدان هذه الأمة، ولا أحد يخفى عليه الفارق بين العاملين من أجل تجديد الخطاب الإسلامي وتنقيته من التطرف والجمود والمغالاة والتعنت والتعصب، وبين العاملين على هدم البنيان وتقويض الأركان.
ولقد استغل حرية الإعلام في بعض الأقطار والمهاجر كتاب كبار بشرونا بثقافة السلام (التي كنا نتوقع أن تكون بحثاً عادلاً ومنصفاً عن إطار التعايش الممكن، وتوصيفاً موضوعياً لعلاقات جديدة بين شعوب المنطقة بحيث يستعيد صاحب الحق حقه كاملاً في إطار الشرعية الدولية وعبر المفاوضات الحضارية تجنباً للحروب المدمرة)، فإذا بعضهم يوظفون طاقاتهم لخدمة المشروع الصهيوني وحده، ويعادون المشروع العربي. وقد رأينا بعضهم يثير مشكلات الأقليات (على سبيل المثال) بطريقة استفزازية، بحيث يصير الطرح بحثاً عن الفتنة، وليس بحثاً عن الحقوق التي يجب أن تصان، ورأينا بعضهم يسخر من ثوابت الأمة ومن أخلاقها وتاريخها، ويهاجم لغتها وثقافاتها وأديانها.
إنني أدرك أن بعض الحكومات تخشى من أن تواجه نوعاً من هذا الاستغلال لحرية الإعلام، وقد امتلأ العالم بمنظمات دولية صار همها أن تدافع عن حقوق الشواذ فكرياً وجنسياً، وبعضها ينفق الميزانيات الضخمة لتحقيق اختراقات إعلامية للفكر والثقافة العربية عن طريق الإعلام، وقد بدأنا نلحظ انتشار برامج فضائية مكلفة جداً، همها الوحيد تحقيق هذا الاختراق، وإلهاء الشباب العربي عن قضايا أمته، وإشغاله بقضايا تافهة يقبل عليها بشوق إلى التصويت الذي حرم منه في السياسة فوجده في الفنون، بل فيما يشبه الجنون في تلك البرامج التي تقترح على الشباب أن يجلسوا أمام التلفزيون طوال الليل والنهار ليتفرجوا على من تـأكل ومن تشرب ومن تجلو الصحون، في وقت بدأ الأقصى فيه يتهدم وتنهار أساساته وجدرانه. وهذا النوع من الاختراق ليس أقل شأناً من الاختراق الصريح للإعلام السياسي في كثير من الصحف والمحطات الفضائية، التي تردد مصطلحات الإعلام الصهيوني وتجعلها قيد التداول (عبر سياسة الأمر الواقع)، حتى بين الذين يرفضونها، والتي تروج لمشروع الشرق الأوسط الكبير كأنه قدر لا رادَّ له، وأنه هو الخير الذي سيعم البلاد، ويجلب الديمقراطية المنشودة، وتتجاهل أنه مجرد تعليب جديد لمشروع إسرائيل الكبرى.
ولكن الحكومات تبالغ أحياناً في الحذر من حرية الإعلام، وتلزم نفسها وإعلامها ما لا يلزم، حين تجعله كله الناطق الرسمي باسمها، وتحرمه حقه من أن يكون ناطقاً باسمه، دون أن تتحمل الحكومة أية مسؤولية رسمية عما يصدر عنه. فمن الممكن أن تكون في كل صحيفة زاوية للموقف الرسمي، تعلنه الرئاسة أو وزارة الخارجية أو وزارة الإعلام، أو وكالة أنباء حسب أهميته، ويمكن الأخذ بهذه الصيغة في الإذاعة والتلفزيون، بحيث يكون هناك برنامج معين يعرف المشاه