العمل الروائي... وسهام النقد
في 2009 أخرجت لي دار نشر لبنانية عملي الروائي الأول. الرواية التي حملت عنواناً مثيراً هو "في شقتنا خادمة حامل"، أثارت الكثير من الجدل واللغط داخل البحرين وخارجها. فمن قائل إنها لا ترقى إلى مستوى الإبداع الأدبي، إلى زاعم بأني تسترت خلف الرواية لأستعرض سيرتي الذاتية التي لا تهم أحداً، إلى متسائل عن الدافع الذي حذا بأكاديمي متخصص في السياسة والعلاقات الدولية لدخول عالم ليس عالمه ولا يفقه أبجدياته، إلى مشاغب اتهمني بأني أرنو إلى الشهرة التي لا تتحقق إلا من خلال رواية يتصدرها عنوان فضائحي، وبها توليفة من الثالوث العربي المحرم (الجنس والسياسة والدين)، إلى ناقد زعم بأني استندت في عملي إلى الاسترسال التقريري في عرضي لأحداث رواية متسارعة ومليئة بالأحداث الكبيرة، ثم اتهمني بالقفز من مستوى زمني إلى آخر على نحو مفاجئ.
وردي البسيط والمتواضع على كل من انشغل مشكوراً بهذا العمل، هو أني لم أزعم يوماً أني روائي متمكن بمجرد أن المطابع أخرجت رواية تحمل اسمي، كما أني لم أضع نفسي ضمن أعلام الرواية العربية التي أعترف أنها مجال له أربابه.
كل ما في الأمر أني انطلقت من قناعة مفادها أن الرواية ليست سوى تجارب إنسانية متراكمة مصاغة بلغة أدبية قادرة على الوصف والتخيل وصنع الحبكة الدرامية، وبالتالي فإن امتلك المرء تلك التجارب واللغة السليمة المعبرة عنها، فمن حقه أن يكون روائياً. كذلك فعل كل الروائيين الخليجيين الذين جاؤوا من الحقلين الأكاديمي والسياسي من أمثال د. غازي القصيبي ود. تركي الحمد و المرحوم عبدالرحمن منيف وغيرهم. وبعبارة أخرى، فإن كتاب الرواية لا يولدون روائيين، وليس شرطاً أن يكونوا حاملين لشهادات جامعية في الأدب، وإنما تقودهم أقدارهم إلى هذا المجال الإبداعي تنفيساً عن مكنوناتهم الإنسانية وتعبيراً عن تجاربهم في الحياة. وأمامنا قصة أحد أغنى كتاب الرواية في العالم وأكثرهم شهرة ألا وهو الأديب والروائي الكولومبي الكبير "غابرييل جارسيا ماركيز" الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عن روايته الخالدة "مائة عام من العزلة". فهذا ظل يكتب حصرياً في السياسة، ولم يطلقها ويتزوج من الكتابة الروائية إلا بعد أن ذاق ويلات الكتابات السياسية وما سببته له من معاناة وتشرد وفقر، حيث قال - كما يروي سمير عطا الله – في أحد مقالاته "لقد اتخذت قراري. لا كتابات سياسية بعد اليوم، ولا مطالعات، ولا محاولات. سوف أنصرف إلى الرواية، وسوف أرويها للناس كما كانت تفعل جدتي".
ثم أنه ليس شرطاً أن تكون الرواية مزدحمة بالشخوص والأحداث والحوارات المطولة والغموض والحبكات الدرامية كي نطلق عليها هذا الاسم. ففي اعتقادي المتواضع الذي ربما يشاركني فيه الكثيرون أنه كلما قل عدد شخصيات الرواية وأبطالها وقصرت حواراتهم، ورسمت أدوارهم في حدود معينة، وكلما ابتعدت الرواية عن الغموض والتعقيدات، كلما كان ذلك أنفع وأجدى لخلق رواية يستطيع المرء قراءتها بسلاسة ودون ملل وصداع، أو تشتيت لأفكاره.
أما ردي على من ادّعى أن الرواية تستعرض سيرتي الشخصية، فهو أن كل من يعرفني حق المعرفة أو تابع مسيرتي الدراسية ومشواري العملي، أو قرأ شيئاً عنها سيكتشف بنفسه زيف هذا الادّعاء، لأن الكثير في سيرة بطل الرواية "سالم" وتحولاته وتنقلاته لا يتقاطع مع سيرتي ومشواري.
وأستطيع أن أزعم أن معيار الجودة في أية رواية يكمن في تفاعل القارئ مع أحداثها وشخوصها بحيث إن بدأ قراءتها لم يلق بها جانباً، إلا وهو يطوي صفحتها الأخيرة، وهذا تحديداً حال الكثيرين من الأصدقاء مع روايتي، حيث أن كل من حصل على نسخة منها إلتهم محتوياتها التهاما خلال جلسة واحدة متواصلة.
وحسبي - وهذا هو المهم - أني تمكنت من خلال هذا العمل، مهما قيل فيه - أن أتطرق إلى حقبة خصبة وثرية ومشحونة بالتحولات الكبيرة والصراعات الفكرية والمناقشات الطلابية العاصفة في التاريخ العربي المعاصر، هي الحقبة البيروتية - إن صح التعبير - أي الحقبة التي كانت فيها بيروت منارة العلم والثقافة والإبداع وملجأ المضطهدين والمنفيين والباحثين عن الحرية والتنفيس والراحة، قبل أن تطالها الأيدي الهمجية فتحيلها إلى ركام وظلام وأشلاء ودماء ووطن مسكون بالآلام والأوجاع والأفكار البائسة والانقسامات العبثية.
صحيح أني لم أعط تلك الأحداث حقها من التفصيل - لأني لم أكن بصدد كتابة مؤلف تاريخي – إنما ما يشفع لي هو أني توقفت عندها وأشرت إليها بما يناسب أهميتها في خضم تشابكها مع أحداث الرواية أو في خضم إثارتها للأفكار والعواطف والمشاعر عند أبطال الرواية.
وحسبي أيضاً أن ناقداً أكاديمياً عربياً في وزن الأستاذ الدكتور صلاح فضل قرأ الرواية وقارنها بعملين روائيين كبيرين، حينما قال: "يستحضر عنوان الرواية في الذاكرة الأدبية عملين سابقين، أولهما لروائي مصري رائد في كشف أسرار مجتمعه وهو إحسان عبدالقدوس "في بيتنا رجل"، والثاني لكاتب وشاعر سعودي شهير هو «غازي القصيبي» في روايته «شقة الحرية»، وهو – أي عملي الروائي - لا يقل عنهما مكانة في نسيجه الفني ولا تماسكا في رؤيته على الرغم من هناته. حيث أفرد الدكتور فضل مساحة كبيرة لرواية "في شقتنا خادمة حامل" في صحيفة "المصري اليوم"، تعرض من خلالها لبعض الهنات التي من النادر أن يخلو منه العمل الأول لأي كاتب روائي، قبل أن يشير إلى بعض الأخطاء التقنية في العمل. لكن المهم هو ما خلص إليه الرجل في النهاية كحكم مجمل على العمل وهو قوله "ومع أن الرواية مكتنزة بصفحاتها القليلة وأسلوبها المقتصد، فإنها تحفل بالتحليلات الدقيقة، مما يجعلها باكورة روائية لأستاذ موهوب يمتلك حساً فنياً مرهفاً ورؤية إنسانية عميقة".
وأخيرا فإنه يكفيني - بكل تواضع - انشغال العديد من الزملاء بالعمل وجدالهم حوله، فهذا وحده دليل على أهميته، وباعث لي على المضي قدما في إنتاج أعمال روائية أخرى.