جوائز المثقفين... الآلوسي أول الحائزين
كانت المناسبة حضور توزيع جائزة الشيخ زايد للكتاب، والتي تُزامن احتفاليتُها، عادةً، افتتاحَ معرض الكتاب الدولي بأبوظبي، وهناك الشعوب تعرض بضاعتها من الكتاب، منه للبيع ومنه للمشاهدة، كالكتب القديمة والمخطوطات النفيسة، العربية منها والأجنبية، فبين أروقته تجد الإنجليز والدنماركيين والهنود والصينيين ومختلف الألسن.
وتُعقد، على هامش مناسبتي الجائزة والمعرض، ندوات أدبية وفكرية، مفتوحة لزوار المعرض وضيوف الجائزة والوراقين، وكانت أولى الندوات حول الجوائز بشكل عام، أدارها الأديب والأكاديمي السعودي عبدالله الغذامي، وشارك فيها أمين عام جائزة "العويس" عبدالحميد أحمد، والناقد المصري صلاح فضل، وأمين عام الجائزة راشد العريمي، وأساتذة آخرون، لا تحضرني أسماؤهم.
جرى الحديث عن الجوائز الثقافية شرقاً وغرباً، وطلبتُ الكلمة لأقول: "أسأل عن معلومةٍ ولديَّ معلومةٌ! هل هناك مثقف عربي أو كتاب بالعربية حصل على جائزة غربية قبل عام 1900؟". وكنت حذراً من أن هناك مَنْ حصل من الجزائر أو المغرب أو مصر مثلاَ على جائزة، وعندها سأحتفظ بمعلومتي.
وبعد أن رأيت الاستغراب على وجوه المشاركين في الندوة من هذا السؤال أو الاستفسار، وكأن لسان حالهم يقول: هل هناك جوائز تصل هذه البلاد من أوروبا، في القرن التاسع عشر، وعبر أية وسيلة! عندها قلت مفتخراً، بطبيعة الحال، بمعلومتي، وهي أن الفقيه والمؤرخ والأديب العراقي محمود شكري الآلوسي (ت 1924) قد حصل على جائزة من المملكة السويدية عام 1896 ميلادية، وذلك لفوز كتابه "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب"، حال صدور طبعته الأولى في ذلك التاريخ.
عندها سأل أمين عام جائزة "العويس"، مستغرباً، عن اسم الكتاب وحيثيات طبعه، ومن جانبه طالبني أمين عام جائزة الشيخ زايد بالمصدر، وذلك للغرابة. أما الكتاب فهو المذكور والمصدر فهو ما ورد في مقدمة الشيخ محمد بهجة الأثري (ت 1996) لطبعة الكتاب الثانية (1923)، قال وهو يلبي طلب أستاذه في تحقيق الكتاب ونشره من جديد: "فإن كتاب بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، الذي نال به مؤلفه أستاذنا العالم الجهبذ السيد محمود شكري الآلوسي، الجائزة من لجنة الألسنة الشرقية في استقهولم (هكذا وردت)" (محمد بهجة الأثري 10 ربيع الثاني سنة 1342هـ).
كان الكتاب الفائز بالجائزة السويدية، في القرن التاسع عشر، سبباً في إطلاق لقب الرصافي على الشاعر معروف عبد الغني (1945)، حسب ما يروي المعني نفسه: "قال الأستاذ (الآلوسي)، وهو أول مَنْ سماني بالرصافي، وسبب التسمية أن المذكور ألف كتابه المعروف بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، وطبعه في مطبعة أهلية تعود لشخص يدعى علي أفندي، في سوق السراي، وعهد إليَّ بتصحيحه، وأني قرظت الكتاب المذكور بعدة أبيات، كانت مصدرة في مقدمة الطبعة الأولى، وكنت قد كتبتُ أسفل الأبيات اسمي معروف، فلما شاهده السيد محمود شكري أُعجب به إعجاباً، وقال لي: أكتب بعد اسمك الرصافي، لأنك معروف الرصافة، والكرخي (المتصوف الشهير، ت 200 هـ) معروف الكرخ. فلم أفعل، فكتب بخطه، فصار يناديني بالرصافي، وهو الذي أذاعه ونشره فغلب عليَّ" (الرصافي يروي سيرة حياته).
ويغلب على الظن أن الشيخ الأثري رفع أبيات الرصافي، التي لم أجدها في ما لديَّ من شعره، من مقدمة الطبعة الثانية، أو أن السيد الآلوسي نفسه أمر برفع أبيات الرصافي، بعد أن سلك الشاعر طريقاً غير طريق أستاذه الآلوسي وزميله الأثري، والله أعلم.
لقد غدت جائزة الشيخ زايد موسماً من مواسم الثقافة والأدب، يتخالط فيه الأدباء والكتاب، يتبادلون إنجازاتهم، وما حوت ذاكرتهم من مواقف من عام إلى عام. وعراقياً، خلال الأربعة أعوام، فاز بالجائزة: المعماري المعروف رفعة الچادرچي عن كتابه "في سببية وجدلية العِمارة" (2008)، والذي جمع فيه بين حس الفنان وتأمل المفكر، وهو صاحب شأن رفيع في هذا المجال، ومن قبل كان فائزاً بجائز الأغا خان في العمارة (1987).
وفي دورة الجائزة لهذا العام فاز الأكاديمي والفنان أياد حسين عبدالله عن كتابه "في التصميم"، ومناسبة الجائزة كشفت لي عن باع هذا الرجل في الكتابة والتصميم والخط، فنحن، هكذا صرنا، منثورين تحت النجوم. يعمل الدكتور أياد حالياً بمسقط، بمركز لائق به، وهو الحائز على جوائز في الخط العربي، وترأس عمادة كلية الفنون ببغداد، ومجلس عمداء كليات الفنون الجميلة بالجامعات العراقية.
سألته: كيف وصلت إلى الجائزة؟ قال: "سمعت بها فقدمت إليها، عبر البريد، كتابي في التصميم، وانتظرت من دون أية مؤسسة أو شخصية، فحاز على الفوز". وأردف: "انتظرت الجائزة وانتظر العودة إلى العراق، لعل فرجاً قريباً يحملنا إلى هناك"! وما أخشاه أن يعود مبدع مثل أياد ويجد نفسه مجتثاً! وأعماله الفنية محطمة بفأس محافظ بغداد وسلفية العصر العراقي!
أما المعرض فأطرف ما حصل لي به أن وقعت عيني، بالجناح السعودي، على كشاف مجلة "لغة العرب"(1911 -1931)، وكان منشؤها ورئيس تحريرها العلامة الكرملي (ت 1947)، والكشاف من إصدارات مكتبة الملك عبدالعزيز العامة (2003)، أصدرته في غلاف قشيب وورق مصقول، أعده أبو عبدالرحمن الظاهري وأمين سيدو.
تقدمت من راعي المكان لشراء الكتاب، الذي لا يقدر بثمن بالنسبة لي، فشاح بوجهي وقال بنفرة: "ليس للبيع"! قلت له: إذن امنحه لي منحةً! إلا أنه حاول سحب الكتاب من يدي، وحينها تربعت على الأرض وأنا متمسك بالكتاب، وزاد غضب الرجل وهددني أن يحضر شرطة المعرض! قلت له: لستُ متحركاً من هنا، واطلب المبلغ الذي تريد أو تمنحني الكتاب، هذه مجلة عراقية، تركها أهلها فأحييتموها أنتم بهذا الكشاف! وأنا فلان. قلت ذلك لعله قرأ لي شيئاً فيتساهل معي! لكنه رد بعنف: "لا أعرفك! ولم أقرأ لأمثالك! أنت زودتها"! وأخذ يتعوذ ويحوقل، حتى دفع الكتاب بصدري، وقال: "خذه وولي"! حاولت تقبيله فرفض، ومسكت الكتاب وجريت به خشية من تراجعه!
في الختام، الجائزة ومعرض الكتاب تؤمان ولدا في رملة مالحة عطشى، حولها ولاة أمرها، بتصالح العقل والمال، إلى بساتين ثقافة وحقول نبات زاهي الألوان. بلا حسد، أقول: إن القادم من العراق، تحديداً، سيُطيل التأمل والنظر في قيمة هذا التصالح، ولا حاجة للتفاصيل!