لعلي في مقدمة المقال أتوجه بالشكر لطلبتي في مادة التفكير التي أدرسها في الجامعة لأنهم من ألهمني الكتابة حول هذا الموضوع في هذه الفترة العصيبة من تاريخ أمتنا. فلا يخفى على أحد ما تمر به الأمة من انتكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية. لست متشائما فليس هذا من طبعي، لكن الطبيب لابد له من الانطلاق من واقع المريض حتى يصل به إلى مرحلة الشفاء. هناك عوامل كثير أوصلت الأمة إلى ما نحن عليه، وسأترك لغيري مناقشة هذه العوامل لأنهم أدرى مني، لكني سأتطرق للموضوع من زاوية تربوية نفسية، لأحلل الواقع كي نصل لإحدى نقاط البداية المهمة للإصلاح الذي ينادي به الكل. لكن الكل هذا لا يعرف من أين نبدأ؟
في تصوري الشخصي هناك نقطة مهمة ترتبط بنمط التفكير الذي تربينا عليه، ونمارسه يوميا كأفراد أو مسؤولين. هذا النمط هو ما أسميه الانحناء للعاطفة، وهو مختلف كل الاختلاف عن المصطلح السياسي المعروف بالانحناء للعاصفة. فعندما تكون الدول في وضع لا يسمح لها بمواجهة التحديات الخارجية المحيطة بها تطبق فكرة الانحناء للعاصفة التي تقوم بها الأشجار الضعيفة كي لا تقتلع من جذورها. ونحن نعرف أن المرونة مطلوبة لكن في حدود. فسياسة الانبطاح للعاصفة كي تدوس، تختلف عن سياسة الانحناء للعاصفة كي تمر بسلام. لكن الانحناء للعاطفة منهج في التفكير يجعل الإنسان مسايرا لعاطفته مهملا فكره وعقله مما يزيد بلة الطين الذي توغل فيه. دعونا نتأمل الأمثلة التالية كي تتضح فكرة الانحناء للعاطفة.
لو كنت مديرا مسؤولا عن الترقيات في مؤسستك، أو كنت مسؤولا عن التعيين في إدارتك، نعرف جميعا ما يجري في العديد من مؤسساتنا، حيث يتم الإعلان عن الوظائف ويتقدم الناس لها، فإذا لم يكن الإعلان مفصلا على شخص لا ينقص الإعلان إلا اسمه فإن لجنة المقابلات تتعرض إلى ضغوط اجتماعية كي يتم تعيين أحدهم. أما في الترقيات فإن أصحاب الحظوة فيها هم من نرتاح لهم لأنهم يفكرون بنفس طريقتنا، فبالتالي لن يكون للمعارضة حيز في المؤسسة. وكما يقول المثل "الباب الذي تأتي منه الريح نسده كي نستريح ". لكن هل هذا لمصلحة المؤسسة؟ الجواب في الغالب بالنفي. فالشركات والدول الراقية اليوم تبحث عن المعارضة لأنهم وجدوا فيها جانبا إيجابيا يتمثل في كشف جوانب الخلل في الشركة أو المؤسسة أو الدولة. إن العاطفة التي ننحني لها عند اتخاذ القرار مسألة لابد من مراجعتها إذا أردنا المستقبل الذي نبحث عنه.
دعونا نتكلم عن الإعلام قليلا، ما هو الإعلام المطلوب في العديد من الدول اليوم؟ نجده الإعلام الذي يدغدغ العواطف ويثير جيل الشباب. ففي مؤتمر الإعلام المعاصر والهوية الوطنية الذي عقد في جامعة القاهرة في الشهر الماضي، أكدت الدراسات الواقعية مثل هذه المسائل. فقد بينت إحدى الدراسات حول الفيديو كليب بعد تحليل أكثر من 300 أغنية أن اللقطات الغريزية المثيرة فيها بلغت 77% من الأغنية. كما بينت الدراسات أن الأغاني التي فحصت تعكس البيئة الغربية بأكثر من 70%. ولو ابتعدنا عن ميدان الطرب إلى الأفلام والتمثيليات لرأينا النسب نفسها تتكرر فهي تخاطب العاطفة أكثر من العقل والمنطق. والنتيجة هي ما نراه اليوم من عاطفة جياشة ينحني لها الشباب طواعية دون إكراه. ولو سألت من يقف وراء هذا الإعلام لرأيت مقولة مثير للسخرية مفادها "هذا ما يريده الناس". نعم هناك فئة من الناس تريد ذلك، لكن أن يعمم ذلك على الكل أعتقد أن هناك خللاً في المنطق الإعلامي الذي نعيشه.
أترك لك عزيزي القارئ ميدانا لإضافة أمثلة أخرى للانحناء للعاطفة تراها حولك يوميا في عملك وفي المجتمع الذي نعيش فيه وفي منزلك. والسؤال الذي أختم به، هل العاطفة كلها شر؟ والجواب بالنفي. فالإنسان به عواطف وله أحساس، فهو ليس آلة صماء، لكن المطلوب من العقلاء هو التحكم في عواطفهم، فالفرق بين الإنسان والحيوان يكمن في قدرة الإنسان على تهذيب عواطفه وتمكنه من إرجاء إشباع غرائزه، أما الحيوان فغرائزه هي ما يسيره. لذا ينبغي علينا إعادة النظر في العديد من ممارساتنا كي لا تقتلعنا العاطفة التي ننحني لها.