في متحف طنجة للآثار القديمة، تبرز واحدة من أشهر لوحات الفسيفساء (الموازاييك) في المغرب، وهي لوحة "رحلة فينوس". ومن الممكن للمرء أن يفهم هذه اللوحة على أفضل وجه إذا تراجع إلى الخلف واستوعب في ناظريه الصورة الكاملة بحيث تتماهى كل قطعة ذات لون مشرق مع غيرها من القطع. ومع توقيع الولايات المتحدة لاتفاق تجارة حرة جديد مع المغرب في الأسبوع المقبل، صرنا بحاجة إلى إدراك الموزاييك الكامل للمصالح المطروحة في الرهان.
وتتألف الصورة الأكبر من شراكة اقتصادية وسياسية جديدة وأكثر عمقاً مع المغرب، ومن ضوء مشرق قوامه الإصلاح وعملية التحديث في العالم الإسلامي. وما زالت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ زمن بعيد مكاناً للاقتصادات المصابة بالركود، ومكاناً للتطرف الديني والافتقار إلى الأمل. فالديمقراطية في هذه المنطقة شيءٌ نادر، والأعمال الصغيرة تتعرض للإحباط على يد الحكومات والقلة من أصحاب الحظوة والامتيازات، والمسلحون يريدون إرجاع عقارب الساعة إلى القرن السابع.
وعلى رغم ذلك هناك رؤية مختلفة بدأت تظهر الآن هناك. فالدول العربية المعتدلة ، كالمغرب مثلاً، تستخلص الأفكار من العصر الذهبي الذي سادت فيه ثقافة أتاحت للمثقفين والدارسين الشباب استكشاف أقصى حدود المعرفة، وهو العصر الذي ازدهرت فيه التجارة. وتشتمل رؤيتهم الإصلاحية والمتسامحة للإسلام على الانتخابات البرلمانية الحرة، وبيع القطاعات التي تملكها الدولة، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية التي من الممكن ربطها بعملية تنمية وتطوير ذات قاعدة أوسع، وكذلك على تحقيق حماية أفضل لحقوق النساء والعمال.
وفي المغرب والأردن والبحرين وغيرها من الدول، يناضل القادة الشباب في سبيل روح الإسلام. وتلك معركة يخوضها القادة الذين يعتنقون التسامح ضد المتطرفين الذين يزدهرون مع الكراهية. وفي ذلك صراع يخوضه الإصلاحيون الاقتصاديون ضد أولئك الذين يخشون التحديث لأنه يتهدد ما لديهم من قوة التخويف. وفي ذلك أيضاً منافسة يخوضها الذين يرحبون بوجود روابط أوثق مع الغرب، وذلك ضد أولئك الذين يروننا كعدو لهم.
ومصلحة أميركا الاستراتيجية في حصيلة هذا الصراع هائلة، لكن قدرتنا على التأثير فيها محدودة. فمن الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا، وحدهم زملاؤنا المسلمون قادرون على قيادة إخوانهم وأخواتهم نحو مستقبل إسلامي أفضل. لكن الولايات المتحدة لا تفتقر تماماً إلى قوة التأثير. فمن خلال اتفاقات التجارة الحرة، على سبيل المثال، يمكننا أن نتبنى الدول الإسلامية السائرة في طريق الإصلاح، وذلك بتشجيعنا لعملية التغيير والتحويل فيها وبتعزيزنا لفرصها في النجاح حتى ونحن نفتح أسواقاً جديدة للبضائع والخدمات الأميركية.
وأتت الخطوة الأولى في اتفاق التجارة الحرة المعقود مع الأردن في عام 2001. وأدى وجود الروابط التجارية الأوثق وإلغاء التعريفات الجمركية إلى تحقيق زيادة قدرها 197% في حجم التبادل التجاري بين الأردن والولايات المتحدة، وإلى اجتذاب الاستثمارات الأجنبية إلى الأردن، بما في ذلك قطاعات وصناعات المعرفة والمقاولات، ومنها مثلاً الصناعات الدوائية وصناعة البرمجيات. وتقول تقديرات الأردنيين إن التجارة الموسعة ساعدت على استحداث نحو 35 ألف وظيفة جديدة. وقد أقام الأردن علاقات اقتصادية أوثق مع إسرائيل وهي شريكنا الأول في ميدان التجارة الحرة.
وللاستفادة من هذه المصلحة الجديدة في الجمع ما بين الحداثة والعالم الإسلامي، رسم الرئيس بوش في السنة الماضية ملامح خطة تهدف إلى إنجاز منطقة التجارة الحرة الشرق أوسطية. وها هو المغرب الآن، من بين بلدان منطقة المغرب العربي، ينضم إلى الأردن بتوقيعه اتفاق التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. وإثر ذلك وبسرعة، اختتمت الولايات المتحدة والبحرين المفاوضات حول اتفاق التجارة الحرة منذ أسابيع قليلة، وهو الاتفاق الذي نتطلع إلى توقيعه في الخطوة التالية.
لقد أثار هؤلاء القادة اهتمام الآخرين. فالولايات المتحدة وقّعت الآن اتفاقات معنية بتسهيل التجارة مع ثماني دول عربية أخرى، من اليمن إلى الجزائر، وذلك كخطوة أولية نحو التجارة الحرة. وبذلك تقوم الإدارة الأميركية شيئاً فشيئاً ببناء موزاييك مؤلف من الإصلاحيين الذين يحملون خططاً تقدم التجارة والانفتاح كأداتين في يد قادة البلدان الإسلامية الذين يتطلعون إلى ولادة جديدة لإسلام يتصف بالتفاؤل والتسامح.
ومن سوء الحظ أن البعض، هنا في الولايات المتحدة، لا يرون تلك الصورة الأكبر. فخصوم اتفاقات التجارة الحرة هؤلاء يشغلون بالهم بالمطالبة بوضع شروط وبنود إضافية معنية بالعمالة، وهم يزعمون على سبيل المثال أن الاتحادات العمالية قد تعرضت للضغوط من جهة الحكومات. غير أن هذه الاعتراضات، التي أطلقتها الاتحادات التي لا تريد وجود منافسة خارجية أجنبية، هي اعتراضات تدحض نفسها. فالاتفاقات التي سيتم توقيعها مع المغرب والبحرين، شأنها في ذلك شأن الاتفاق الموقّع مع الأردن، تتطلب من شركائنا تطبيق قوانين العمل وال