صعدنا إلى الطابق العاشر من هيكل خشبي قديم تقليدي الطراز (باغودا)، وهو معروف هنا في مدينة هانغ جو الصينية باسم "باغودا الانسجامات الستة". كان المنظر المرئي من هناك شيئاً مذهلاً. فإلى الغرب ترتفع الجبال الموشحة بالضباب بين الأودية التي تضم المزارع التي تنتج أنواع الشاي الصيني الأخضر الأكثر رواجاً. وإلى الشرق، وعلى الجهة الأخرى من نهر كيانتانغ، يمتد المركز التجاري والصناعي في هانغ جو، وهي عاصمة الإقليم التي تبعد مسافة 140 ميلاً إلى الجنوب من مدينة شانغهاي. وعلى طول جزء قصير من الأفق، كانت هناك 20 رافعة ضخمة ترفع الخرسانة لتضيف صفوفاً جديدة من مباني الشقق السكنية ومراكز التسوق والمكاتب إلى الأشياء الكثيرة الأخرى التي تفتخر بها هذه المدينة.
إن اقتصاد الصين في فورة نشاط بالغ، ونموه المتواصل يولّد موجات في السوق العالمية كلها. وفي سياق ذلك، يطرأ التغيير السريع على العلاقات بين مختلف المجموعات في الصين، وعلى الدور الذي يلعبه الحزب الشيوعي الصيني المهيمن، وعلى الآراء والصورة الذاتية وأسلوب الحياة الذي يتبعه 1.3 مليار إنسان.
وفي الواقع أنني ذُهلت أثناء إقامتي لمدة أسبوع في شنغهاي وهانج زو بمدى نجاح الصين- أثناء العقود الثلاثة منذ نهاية الثورة الثقافية التي حدثت ما بين 1966 و 1976- في مجال إعادة بناء اقتصادها والبنية التحتية للتعليم وهي ذات أهمية بالغة لإمكانيات نجاح البلاد على المدى الطويل.
وفي نظر الكثير من الشباب الذين يعيشون على طول الخط الساحلي الشرقي المزدهر، تبدو عمليات خصخصة الحقبة "الماوتسية" (نسبة إلى الزعيم ماوتسي تونغ) أشبه بتاريخ قديم. فالكثير من هؤلاء يلبسون ثياباً من طراز ثياب الشباب في أميركا، كما يحملون الهواتف الخليوية ويمتلكون الدراجات الهوائية. لكن وسائل النقل العام ممتازة في المدن الكبيرة. ففي بكين ثلاثة خطوط لقطار الأنفاق، وهي معرّضة لضغط شديد، كما يجري بناء 5 خطوط أخرى من المقرر إنجازها لخدمة دورة الألعاب الأولمبية في عام 2008.
وبات امتلاك السيارة الخاصة للمرة الأولى خياراً متاحاً أمام الملايين من أصحاب الدخل الأعلى، وهو خيار يتبناه هؤلاء بحماس كبير. ففي بكين، كثيراً ما تصل الطرقات العريضة المؤلفة من 8 مسارات إلى حدود الاختناق المروري التام، حتى في منتصف الفترة الصباحية. (أخبرني عدد من أصدقائي الصينيين بأن وباء سارس الذي تفشى السنة الماضية دفع الكثيرين من القادرين مالياً إلى شراء سيارات خاصة لتفادي ركوب القطارات والحافلات).
وأتيتُ إلى الصين في سياق برنامج تبادل أكاديمي بين جامعة فيرجينيا وجامعة "الصين الشرقية النظامية" التي استضافت مجموعتنا المؤلفة من أربعة أشخاص في حرم الجامعة الجميل في غرب شنغهاي، وفيه التقينا بالطلاب وهيئة التدريس على مدى أربعة أيام.
وفي عصر أحد الأيام، استغرق أعضاء الهيئة التدريسية في ذكريات تجاربهم أثناء الثورة الثقافية. وقال اثنان منهم، وكانا ما يزالان في المدرسة في عقد الستينيات، إنهم انخرطوا في فورة مناهضة السلطة التي أشعلها بين الشباب الزعيم القومي الشيوعي ماوتسي تونغ الذي حث الشباب الصيني على مواجهة وشجب بل وحتى إنزال العقاب بمدرسيهم وبغيرهم من أعضاء السلطة. وتذكر هذان الرجلان تهورهما وحضورهما للتجمعات الحاشدة التي كان يعقدها الحرس الأحمر من الشباب الموالين لماوتسي تونغ. واعترف أحدهما بمشاركته آنذاك في جلسة عمد فيها الطلاب إلى السخرية من إحدى المعلمات وتوبيخها على الملأ.
وقد عبر هذا الرجل عن صورة دقيقة للمشهد الذي ساد في ذلك العقد المضطرب. وعلى رغم أنه شعر بالندم على ما فعله بمعلمته، فإنه عموماً يحمل ذكريات طيبة من أيام الجزء الأخير من حقبة الثورة الثقافية، أي حين أمر ماوتسي تونغ الملايين من شباب المدينة بالذهاب إلى الريف لكي "يتعلموا من الفلاحين". ويقول الرجل "لقد كنا نؤمن حقاً بما نمارسه هناك.. كنا نظن أننا نساعد الزراعة على التطور. كانت لدينا مثل عليا ومجموعة مقربة من الأصدقاء. وما زلت أحياناً أرجع إلى هناك".
كل البشر يكبرون. وقال هذا الرجل إنه اعتذر في وقت لاحق من تلك المعلمة التي شتمها فقبلت منه اعتذاره. والآن بعد مضي سنوات كثيرة، صار هو نفسه معلّماً وأستاذاً. وفي الواقع أن عمله في "جامعة الصين الشرقية النظامية"، التي تضم قسماً صارماً للتربية والتي تشكل مركز تجمع للجهود الرامية إلى تحديث التربية الصينية، يلقي عليه مسؤولية كبيرة حيال تدريب الأجيال الجديدة من المعلّمين والمعلمات.
وجلست في أحد صفوف قسم علم النفس، حيث تولت التدريس زميلة موفدة معنا من جامعة فيرجينيا. وألقت الزميلة محاضرتها التي غطت فيها مسائل معقدة في مجال العلاقات الديناميكية بين الأشخاص، وذلك بلغة إنجليزية ودون وجود أي مترجمين. وبدا أن 80% من الطلاب الحاضرين قد فهموا المحاضرة، بل طرح بعضهم أسئلة استقصائية وجيهة بعد انتهاء المحاضرة. وكان ذلك شيئاً يثير الإعجاب، إذ أن اللغة الإنجليزية هي