التعارفية مقابل الكراهية
في المقال السابق توقفت عند أقوال مراد هوفمان حول المخططات التي وضعها جنرالات "الناتو"، والتي رأى هوفمان أنها تكشف إشكالية خطيرة يعانيها العقل الغربي وهي "كراهية الإسلام"، الكراهية التي يحاول الكاتب تتبع جذورها والأرضيات التي أنتجتها وكرستها على مر الزمن، وهو أيضاً ما قامت به الباحثة البريطانية كارين ارمسترونج حيث حاولت تفسير تلك الكراهية عند بعض الأوروبيين بالعودة إلى عهد السيطرة التركية على بيزنطة، حيث ظل كثير من الأوروبيين يعتقدون أن الإسلام قد يكتسح الممالك المسيحية، لذلك بدؤوا (الأوروبيون) يفكرون في ضرورة العثور على أسلوب جديد لمواجهة "الخطر الإسلامي". وفي دراسة للدكتور مروان بحير، جاء أنه في عام 1901 أجرت مجلة "قضايا دبلوماسية واستعمارية" تحقيقاً شاملاً حول توقعاتها للإسلام في القرن العشرين، اشترك في الإجابة على أسئلته كبار الشخصيات الفكرية والسياسية في تلك الفترة. وخلصت المجلة في نتيجتها إلى ضرورة اختراق العالم الإسلامي وإحداث تغييرات فيه بحيث يصبح ملائماً لتوجهات الغرب، وأن هذه التغييرات لابد أن تكون بأيدي الدول الغربية. وكان رأي "البارون كارادي فو"، من المعهد الكاثوليكي، أن يتم استغلال البدع وبعض الطرق الدينية لإضعاف الإسلام وإخماد يقظته. أما عالم الاجتماع الروسي يوجين دي روبرتي، فكان رأيه أن يواصل الغرب هيمنته على العالم الإسلامي من خلال "التحديث والتقريب"، مطالباً أوروبا بالتحرك بين الصفوة المسلمة لاجتذابها من خلال تلك الأبواب، مع العمل على تمزيق الأسرة والمجتمع.
ويعبر هذا التوجه عن حالة من "الخوف" الذي يندفع في الإساءة باسم التصدي للخطر الإسلامي المزعوم، وهو توجه مرشح للاستمرار فترة طويلة، حسب العديد من الباحثين الغربيين والمسلمين. ووفقاً لأحد المستشرقين الكبار فإن بحوث المائة وخمسين عاماً الماضية لم تقدم للعقل الغربي المعاصر صورة الإسلام على حقيقته. ولو تعمّقنا في تحليل هذه الحالة بما تختزنه من توجه فكري وأيديولوجي، فسنجد أنه بجانب ما تم ذكره آنفاً، هناك أسباب عدة منها ما هو قديم ومنها ما هو جديد، تلعب دوراً مؤثراً في إبقاء العقلية الغربية في دائرة الخوف والتوهم إزاء الإسلام؛ بما في ذلك تأثيرات الحروب الصليبية، والجهل بحقيقة الإسلام، وانطلاق الوعي الغربي في التعامل مع الإسلام من فرضية المجابهة، ثم الغزو الاستعماري الحديث، وإقامة دولة إسرائيل في قلب الوطن العربي، والتحيز الغربي المطلق للدولة الصهيونية، وصعود التيارات اليمينية العنصرية والدينية، وظهور فكرة صدام الحضارات، وحروب السنوات الأخيرة التي تعتبر في بعض أبعادها تجسيداً لتلك الفكرة، وربط الإسلام بالإرهاب.. إلخ.
أما على الجانب الآخر، فإن كثيرين في العالم الإسلامي باتوا يشعرون بأنهم مهددون، وهو الشعور الذي أنتج تصرفات عدوانية. لكن المسلمين اليوم مطالبون بالخروج من دائرة الشعور بالخوف ورد الفعل اللاعقلاني إلى نهج أكثر واقعية وحكمة، وباستخدام كل نفوذهم، السياسي والاقتصادي والإعلامي والثقافي والأكاديمي، لتفنيد الادعاءات والرد على الإساءات والتجاوزات، وبأن يجعلوا معركتهم الفكرية معركة ثقافية تصحيحية شاملة تستخدم كل السبل المشروعة، الدبلوماسية والثقافية، لخدمة مثل هذا الهدف التعارفي العظيم. وعلينا أن نعيد صياغة توجهاتنا من جديد إزاء فكر الكراهية ورفض الآخر في الجهة الثانية، وأن نستفيد من الأصوات العاقلة والأقلام الغربية النزيهة، وندعو أصحاب الفكر الرمادي للتعرف على الإسلام وسماحته عن قرب.