ما فعله الإسرائيليون فجر يوم الاثنين الماضي في عرض البحر الأبيض المتوسط ضد سفن "قافلة الحرية" لكسر الحصار على غزة لا يكشف سوى عن قاتل محترف تعود القتل على الأرض ولم يعد يرى خطأً، بل يعتقد أن ممارسته القتل حق مشروع لن يعترض عليه ولن يحاسبه أحد... فقد أفلت من العقاب والحساب مئات المرات من قبل... لكن هل يعقل أن يفلت هذه المرة؟ تبريرات غريبة وساذجة، فنائب وزير الخارجية الإسرائيلي في مؤتمره الصحفي صباح يوم الاثنين قال بأن النشطاء هم الذين "بدأوا بالعنف، واستخدموا السلاح الأبيض"، ووصفهم بأنهم "أصحاب علاقات مشبوهة بمنظمات إرهابية"، وقال: "منظمو حملة الحرية إرهابيون مرتبطون بحماس". وعندما سئل عن العواقب القانونية لفعلهم قال: "لا نخشى شيئا... لا نهتم بالمخاوف". أما رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي فقال: "سفينة مرمرة -التي قتل عليها أغلب الضحايا من نشطاء السلام- لا علاقة لها بأي نشاط سلمي، لقد أطلقوا النيران ولديهم سكاكين"، وأضاف: "إنهم قتلوا نتيجة دفاع الجنود الإسرائيليين عن أنفسهم". هل هذه عربدة؟ هل هي جريمة في حق البشرية؟. هل اغتالت إسرائيل قافلة الحرية العالمية؟ هل ما فعلته إسرائيل كان إرهاب دولة؟ هل هو استخفاف بالقوانين والاتفاقيات الدولية؟ هل كشفت العملية عن وحشية إسرائيلية؟ نعم... لكن هل كل هذه الأمور جديدة؟ بالطبع لا! كل الأوصاف السيئة والبشعة يمكن أن تطلق على ما حدث بحق القافلة التي كانت متجهة إلى قطاع غزة لمد السكان بعشرة آلاف طن من المواد الغذائية الإغاثية التي يحتاجها سكان القطاع المحاصرون منذ ثلاث سنوات. لكن ليست تلك الأوصاف هي المهمة وإنما المهم أن يعرف العرب والعالم كيف يتعامل مع هذا الكيان الذي احترف القتل بدم بارد... وأن يعرف المجتمع الدولي كيف يتصرف مع دولة صارت فوق القانون، ولم تعد تهتم بأحد في العالم. فبعد أن شبعت من قتل الفلسطينيين على مدى أكثر من 62 عاما تبدأ اليوم بقتل أي شخص آخر حتى ولو كان من رعايا دولة تعترف بها وتعتبرها صديقة. وهذا يكشف المنطق الإسرائيلي في التعامل مع شعوب العالم الأخرى وليس الشعب الفلسطيني فقط. ففي الوقت الذي تطالب فيه إسرائيل بإطلاق سراح جندي واحد أسير لدى "حماس"، فإنها لا تتردد في قتل عشرة أبرياء على الأقل وجرح أكثر من ثلاثين آخرين فقط لأنهم يريدون تقديم الطعام للأطفال الجوعى والدواء للمرضى! فأي منطق هذا الذي تريد إسرائيل أن يقبله العالم... وأي موقف تتخذه الولايات المتحدة في عدم تنديدها بهذه الجريمة الواضحة؟! البوصلة الأميركية ما تزال ضائعة تائهة فيما يتعلق بقضية الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي خصوصا اليوم عندما لا تتخذ واشنطن موقفاً واضحا من الجريمة الإسرائيلية الواضحة ضد نشطاء سلام دوليين... مثلت هذه الحادثة التي هزت ضمير العالم فرصة للولايات المتحدة الأميركية كي تصحح صورتها أمام العالم العربي والإسلامي ولتظهر نزاهتها، لكنها اختارت مرة أخرى تبني الموقف الإسرائيلي فاعترضت على بيان أممي يدين الجريمة الإسرائيلية ضد المدنيين ونشطاء السلام. كان يمكن أن توفر الولايات المتحدة مئات ملايين الدولارات التي تخصصها لتحسين صورتها ليس فقط في الوطن العربي وفي العالم بأسره لو أنها وقفت مع الحق في حادثة فجر الاثنين الماضي، أو على الأقل اتخذت جانب الحياد حتى يعرف العالم أنها كقوة عظمى في العالم لا تخضع إلا للضمير العالمي ولا تنحاز إلا للحق الواضح. من الاستخفاف بعقول العالم اعتبار ما حدث فجر الاثنين عملا جاء بالصدفة أو دون دراسة من قبل الإسرائيليين... فمن الواضح أن هذه الجريمة متعمدة وهذا القتل كان منظماً ومقصوداً من قبل إسرائيل... وإن هذه الأخيرة اعتقدت أنها بذلك تضرب أكثر من عصفور بحجر... فهي بقتل بعض النشطاء ترهب العالم وتردع أية قافلة أخرى تفكر مستقبلا في كسر حصار غزة. وبقتلها نشطاء أتراك ترسل رسالة إلى تركيا بأن إسرائيل هي الأقوى وهي التي تفعل ما تشاء في المنطقة دون حساب. وقد قطع رئيس حكومتها زيارة للولايات المتحدة دون أن يقابل أوباما وبالتالي يجنب إسرائيل إعطاء أميركا أية وعود في مسألة السلام، فكسب وقتاً أطول في التلاعب وتأجيل الحلول السياسية والاستمرار في سياسة الاستيطان، وبشكل عام عرقلة أي محاولة للسلام. لكن يبدو أن الحسابات الإسرائيلية هذه المرة كانت خاطئة، فلم تضرب بذلك الحجر إلا نفسها فصارت محط انتقاد عالمي ومحل غضب شعبي ولم يسعفها إعلامها في تبرير جريمتها الواضحة هذه المرة. أما تركيا فمن الواضح أنها أصبحت اليوم أكثر احتراماً في الشارع العربي وتأثيراً في المنطقة. لذلك فالخاسر الأكبر من هذه العملية هو إسرائيل حين تكشف للعالم عدم احترامها لأي شيء محترم في العالم المتحضر. اعتداء إسرائيل على سفن مدنية في المياه الدولية، وارتكابها القتل بحق مدنيين عزل، هو اعتداء على جميع دول حوض الأبيض المتوسط، وهو عبث بأمن البحر، وخروج بالصراع العربي الإسرائيلي إلى مناطق أخرى وبالتالي تهديد مباشر لأمن المنطقة باسرها.