نحن نعيش في عصر العولمة، هذه حقيقة أولى. والعولمة -وفق تعريف إجرائي صغناه من قبل تحاشيّاً للتعريفات الإيديولوجية- هي "سرعة تدفق المعلومات والأخبار والسلع والخدمات ورؤوس الأموال والبشر من مكان لمكان آخر في العالم بدون قيود أو حدود"، ومعنى ذلك ببساطة أن العالم كله أصبح متصلاً بحكم الثورة الاتصالية الكبرى، وأهم مفرداتها على الإطلاق -بالإضافة إلى البث التلفزيوني الفضائي- الإنترنت. وهذه الشبكة العنكبوتية -كما يطلق عليها- زاخرة بالتفاعلات المتشابكة والغزيرة في أمور السياسة والاقتصاد والثقافة. ومن بين الإضافات البارزة في مجال التواصل الإنساني التي قدمتها شبكة الإنترنت التفاعل بين الكاتب وقرائه. وهكذا ينتقل المقال الذي أكتبه الآن إلى شبكة الإنترنت ويتاح لأي قارئ أن يعقب عليه، بل إن من أخلاقيات التفاعل مع رسائل الإنترنت أن يطلب من المشاهدين أن يعقبوا على ما يقرؤون. وهكذا يشترك القراء في إنتاج نص جديد، بمعنى المقال الأصلي مصحوباً بتعليقات القراء التي لابد لها أن تختلف حسب منهج كل قارئ في قراءة النص الأصلي. وهكذا يتاح لمن يتصفحون الشبكة قراءة "نص جماعي" جديد يتكون من نص المقال الأصلي مضافاً إليه إسهامات القراء من مختلف أنحاء العالم، التي عادة ما تتضمن ملاحظات نقدية، أو إضافات، أو عرضاً لوجهة نظر مخالفة أو وضعاً جديداً للمشكلة التي تعرض لها الكاتب الأصلي. وهذه الإمكانية "التفاعلية" التي أصبحت إمكانية لأي قارئ للشبكة، تتيح الفرص للكاتب الأصلي لأن يعيد التفكير فيما كتب في ضوء تعليقات القراء. وعلى رغم معرفتي بهذه الإنجازات الخارقة في مجال التواصل بين الكاتب وقرائه فإنني نادراً ما توقفت عن الكتابة قليلاً لكي أرد على ملاحظات القراء، خوفاً من قطع الاسترسال في معالجة الموضوع الذي أطرحه، لأنني تعودت على التخطيط لعدة مقالات مترابطة لكي أستوفي مختلف جوانب موضوع ما. غير أنني هذه المرة وبصدد مقالي الأخير عن "الأبعاد السياسية في تحالف الحضارات" وهو جزء من سلسلة مترابطة، آثرت التوقف قليلاً لكي أتأمل ملاحظات القراء على الشبكة. وقد اكتشفت بعد القراءة المتمعنة لملاحظات ستة قراء أن كل واحد منهم نظر للموضوع من زاوية محددة، مما سمح له بتقديم عدد من الملاحظات النقدية أو الإضافات، مما أدى بالفعل إلى إثراء النص الأصلي. وقد لفت نظري أولاً تعليق الدكتور مجدي يوسف من مصر الذي طرح سؤالاً منهجيّاً مهمّاً هو: ما جدوى البحث عن "المشترك الثقافي" بيننا وبين الغرب وتجنب ما نختلف فيه عنه، علماً بأن الغرب ليس وحدة واحدة كما يروج للأسف دائماً، بل هو متعدد الثقافات والتطورات التاريخية الاجتماعية؟ وهذه هي أولى صعوبات تطبيق ما يدعى بـ"المشترك الثقافي"، الذي هو في تقديره بالصورة التي يروجها البعض يتخذ منحى رومانسيّاً خالصاً. والسؤال الذي يطرحه الدكتور مجدي يوسف، وهو أستاذ للأدب المقارن وناقد ثقافي معروف، بالغ الأهمية لأن مبادرة تحالف الحضارات لابد لها لكي تقنع الجماهير التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة أن تبين ما هي جدوى هذا التحالف. والجدوى تتمثل أساساً -من وجهة نظرنا- في مواجهة الصراعات الدولية التي تسارع بعض الأطراف الداخلية فيها إلى استخدام القوة لحلها، وذلك بالدعوة إلى الحوار والتفاوض، اعتماداً على قيم إنسانية مشتركة، سنجد تطبيقاً لها بالضرورة في كل ثقافة. وهذه القيم تركز في المقام الأول على أهمية السلام بين الشعوب، وتشير من الناحية التاريخية إلى صور متعددة للتعاون الثقافي بين مختلف الدول. وبعبارة أخرى فإن استعراض التاريخ الثقافي للبشرية -لو صح التعبير- سيكشف بدون أدنى شك أن الشعوب مارست خبرات متعددة تتمثل في التعاون والصراع، وفي السلم والحرب. والتحالف بين الحضارات يركز في الواقع على لحظات التعاون وعلى الحقب التي ساد فيها السلام بين الشعوب. وفي ضوء هذه الحقائق التاريخية يقرر "مجدي يوسف" أن المشترك الثقافي الحقيقي بين الحضارات يكمن في تفاعل الثقافات مع بعضها بعضاً، بما يضيف إبداعاً لكل منها. ويرتب على هذا المبدأ الذي اقترحه نتيجة مهمة مبناها أنه لا يكفي أن نقرر أن منجزات المسلمين الأوائل قد أفادت كثيراً مشروع النهضة الأوروبية، أو بالأحرى كيف استفادت تلك الطبقة الصاعدة في أوروبا من منجزاتنا في دعم وتطوير مشروعها. وهذه ملاحظة بالغة الأهمية لأنها تتعلق بأهمية التفاعل بين الثقافات في بلورة وتأسيس مشروع حضاري خاص بمنطقة جغرافية محددة وفقاً لأغراض هذا المشروع. وبعبارة أخرى كانت أوروبا في حاجة -في بداية نهوضها الحضاري من غياهب القرون الوسطى- إلى قاعدة علمية متكاملة تؤسس على أساسها مشروعها للتقدم. ولذلك أرسلت الوفود الأوروبية إلى الأندلس، التي كانت تمثل ذروة التألق الحضاري للعالم الإسلامي لكي يتعلم أعضاؤها اللغة العربية، ويقوموا بعد ذلك بترجمة المخطوطات العربية في العلم والطب والفلسفة واللاهوت، لكي تكون النظريات المتضمنة فيها أساس إرساء قاعدة عريضة وشاملة للتفكير العلمي لمواجهة الفكر الخرافي الذي كان هو أساس التخلف. ولكن عبر الزمن لم يكتف رواد النهضة الأوروبية بالنقل عن الحضارة الإسلامية وخصوصاً في مجال منجزاتها العلمية الباهرة، ولكن أوروبا أنشأت المؤسسات العلمية كالأكاديميات والجامعات لكي تطور هذه المعارف العلمية، وتضيف إليها بما يحقق مشروعها الحضاري. وفي تعليق آخر للدكتور عوض الله قرر أن العقبة الكبرى التي تقف حائلاً دون تحقيق أدنى قدر من التحالف بين الحضارات هي سياسة المصالح الغبية، ومن ناحية أخرى صدق قارئ آخر هو محمد السواحري في قوله إن الحضارة معناها عدم التعصب والاعتراف بالآخر. أما الدكتور مجدي طه من جامعة بنسلفانيا فينطلق من فكرة جوهرية هي أهمية تجسير الفجوات بين الثقافات المتنوعة. ويمكن القول في النهاية إننا في حاجة إلى الإبداع الذاتي في مجال صياغة مشروع حضاري عربي جديد.