قافلة الحرية ترسم المستقبل
الحصار ليس على غزة وحدها، فقد كشفت جريمة إسرائيل في عدوانها الإجرامي على قافلة الحرية أنها تحاصر العالم كله، وتكبت الضمير الإنساني وتخنقه، وأنها لا تقيم وزناً لأية دولة في العالم، وأن القانون الوحيد الذي يحدد سلوكها هو البلطجة والقرصنة والقوة التي لا تحدها أخلاق ولا قيم، وهذا كله ليس جديداً علينا، فقد نفذت الحركة الصهيونية مشروعها في الاستيلاء على فلسطين عبر عصابات إرهابية مارست السفك والقتل الجماعي والإبادة للشعب الفلسطيني ومن أشهر هذه العصابات "الهاجانا" و"الآرغون" و"شتيرن" وهي التي تخرج منها كبار قادة إسرائيل من بن غوريون وموشي دايان ورابين إلى شامير وشارون وأولمرت. وثقافة القتل والإبادة هي التي تربى عليها نتنياهو وباراك وكل القادة الإسرائيليين الذين يعتقدون أنهم فوق البشر، وأن على العالم كله أن يكون في خدمة إسرائيل وضامناً لأمنها، وعليه أن يقر بأنها فوق كل القوانين والشرائع الدولية. وهذه الثقافة يرسخها كبار الحاخامات من أمثال عوفاديا يوسف الذي دعا الله أن يبيد العرب وأن يقطع نسلهم، وأفتى بقتلهم وقصفهم بالصواريخ! ونحمد الله أن هذه الثقافة المريضة لم تنعكس في ثقافتنا العربية الإسلامية والمسيحية في ردات فعل غوغائية فما نزال وسنبقى ننهل من ثقافة الاعتراف بالآخر، والتفريق بين اليهودي وبين الصهيوني، وبين من يعتدي علينا وبين من يريد العيش معنا بسلام فنضمن نحن له أمنه وسلامته. لكن ثقافة قادة إسرائيل التي يربون عليها أطفالهم وجنودهم هي ثقافة الموت للآخر وعدم الاعتراف بحقوق الآخرين "الغوييم"، إنها ثقافة عنصرية أنانية، حاقدة ومستعلية ومريضة تنافي كل القيم الإنسانية. وهذا ما يفسر سهولة اتخاذ الحكومة الإسرائيلية قراراً بمواجهة قافلة الحرية بالعنف والقتل والعدوان الهمجي على مدنيين عزل. ولأن إسرائيل تعرف أنها ستكون مدانة حتى من قبل بعض أنصارها الذين سيخجلون من أنفسهم، فقد زعمت أن رجال الفكر والثقافة والأحرار من أصحاب الضمير الحي الذين هبوا لتقديم معونات غذائية ودوائية لشعب يموت أطفاله جوعاً ومرضاً في حصار ظالم، زعمت أنهم يحملون فؤوساً وسكاكين، وأنهم هم الذين اعتدوا على الجنود الإسرائيليين الذين تأهبوا لمهاجمة القافلة من قبل أن تنطلق. وقد كان واضحاً أن إسرائيل تستعد لمواجهة القافلة بعملية إرهابية منذ أن أعلنت قبرص منع النواب الستة والعشرين وبينهم نواب أوروبيون من التوجه إلى غزة عبرها، ويبدو أن بعض الدول الأوروبية ضغطت باتجاه عدم مشاركة نوابها كي لا تواجه حكوماتها حرجاً أمام شعوبها وبرلماناتها لأنها تعلم أن إسرائيل تستعد لمنع القافلة عبر اقتحام إرهابي. ولم يكن ذلك يحتاج إلى تحليل فقد أعلنه وزير الخارجية الإسرائيلي بوضوح حين قال: "لدينا كل العزم والإرادة لمنع هذا التحرش ضدنا، ونحن مستعدون مهما كان الثمن لمنعه"، وقد اعتبر سفن الإعانة والإنقاذ الإنساني تحرشاً لأن ثقافته العدوانية لا توجد في مفرداتها معاني القيم الإنسانية كالإغاثة والنجدة والشهامة.
لقد كان بوسع إسرائيل أن تستقبل السفن وأن ترحب بالقادمين، وأن تأخذ المواد الغذائية والطبية وتعد بإيصالها إلى شعب غزة، كرامة للشعوب والأمم المشاركة في القافلة، ولكن مثل هذا التصرف يحتاج إلى أخلاق ومروءة إنسانية لا يعرفها الإسرائيليون الذين كان أولى بهم أن يقدروا أهمية مكانة تركيا في المنطقة وفي العالم، وهم الذين اشتغلوا قرناً كاملاً لإبعاد تركيا عن العرب منذ أن تسلل يهود الدونمة إلى السلطة العثمانية في أواخر أيامها ووصل كثير منهم إلى مواقع قيادية في تركيا بعد أن زعموا أنهم دخلوا في الإسلام أو في المسيحية، وحكايتهم شهيرة في العالم الإسلامي، وكان هدفهم القضاء على الدولة العثمانية وتفتيتها من الداخل، وقد نجحوا ولم يعودوا مضطرين للتستر بدين غير دينهم فقد بات لهم حضور كبير في تركيا الحديثة التي حرصت عبر عقود من القرن العشرين على إقامة علاقات ودية مع إسرائيل، على رغم أن مشاعر أبناء الشعب التركي هي مع أخوتهم وشركائهم العرب ومع أشقائهم الفلسطينيين مثل كل شعوب وأمم العالم الإسلامي التي تقيم حكوماتها علاقات ودية مع إسرائيل، لكن شعوبها لا تستطيع أن تقبل ما ترى من عدوان وظلم. ولقد تحولت تركيا تحولاً تاريخيّاً حين وصلت إلى الحكم عبر الديمقرطية حكومة تمثل بصدق وجدان الشعب التركي، وتحمل مع كل العالم الإسلامي مشاعر مقدسة نحو القدس والمسجد الأقصى وتتعاطف بدوافع إنسانية وليست دينية فحسب مع الشعب الفلسطيني الذي لا يمكن لأحد في العالم أن ينكر حقه في تحرير أرضه وفي إقامة دولته المستقلة. لكن إسرائيل برعونة واستخفاف بكل القيم لم تعرف قدر ومكانة تركيا، بل لم تعرف قدر ومكانة أربعين دولة شارك أبناؤها في سفن الحرية، لقد كشفت بغباء ورعونة واستهتار عن كونها دولة مارقة لا تحترم أحداً، ولا تعرف غير منطق القوة الوحشية التي لم يقبلها بعض الإسرائيليين، فقد قرأت كتابات إسرائيلية كثيرة تنتقد سلوك حكومة إسرائيل وبعضها طالب باراك ونتنياهو بالاستقالة، ليس لأن هؤلاء المنتقدين حزنوا على من قتل أو من جرح من المدنيين، ولكنهم أدركوا أن إسرائيل تعرّت بشكل فاضح جدّاً أمام المجتمع الدولي، وأنها لن تستطيع تبرير جريمتها التي صارت ضد العالم كله، وهي تحرج الولايات المتحدة التي بدت دولة ضعيفة أمام إسرائيل مضطرة أن تسايرها حتى وهي ترتكب الجرائم. بل إنها تجعل ما قاله أوباما للعرب والمسلمين كلاماً لا معنى له، وهي كذلك تحرج أوروبا وقد بدت بعض حكوماتها شبه مهزومة أخلاقيّاً أمام حقيقة إسرائيل الإجرامية.
وعلى رغم مشاعر الحزن التي تملأ قلوبنا على أشقائنا الأتراك الذين ضحوا بأرواحهم انتصاراً لقضية إنسانية بامتياز، ومع ما يملأ نفوسنا بالأسى المرير لما عاناه الأبطال من جنسيات وأعراق وأديان متعددة، من الذين هبوا لنجدة شعب غزة ولكسر الحصار وهم يعلمون أنهم سيواجهون الإرهاب الإسرائيلي وسيتعرضون للقتل أو الأسر وللمعاملة الوحشية، فإننا نعتقد أن من ضحوا بأرواحهم ومن رماهم الجنود الإسرائيليون في قعر البحر بعد أن قتلوهم لم تذهب دماؤهم هدراً، فما حدث يصح عليه القول العربي الشهير "رب ضارة نافعة" فقد انكسر الحصار النفسي الذي استمر أربع سنوات، وعبر الضمير الإنساني عن كونه ما يزال حيّاً وأنه يرفض ما تقوم به إسرائيل من قهر لشعوب العالم التي لم يعد أحرارها يتحملون العبء الأخلاقي الضاغط على قلوبهم وقيمهم وهم يرون شعباً يتعرض لإبادة جماعية عبر حصار عنصري ظالم وهمجي.
وأتوقع أن تتدفق قوافل الحرية تباعاً على رغم كل العنف الذي ستواجه به إسرائيل أحرار العالم، وسيكشف سلوكها العدواني أنها دولة قراصنة وعصابات إرهابية، وهي التي عاشت قرناً على أكذوبة الاضطهاد الذي تعاني منه من العرب الذين تأكد المجتمع الدولي من حرصهم على السلام ومن جدية استعدادهم له، مثلما تأكد من كون إسرائيل لا تستطيع أن تعيش في سلام لأنها دولة قامت على العدوان وعلى الحروب، وبات واضحاً أن صراعها مع العرب هو صراع وجود وليس صراع حدود، وأن مشروعها الصهيوني قائم على عقيدة عنصرية غير قادرة على الانسجام مع المجتمع الإنساني، ولقد آن أن يفيق الواهمون من وهم إمكانية أن تقبل إسرائيل بالسلام، وآن للعرب أن يستعدوا لما تخبئه لهم إسرائيل من مآس وفواجع.