"هذا هو أسوأ شيء يمكن تخيله" هكذا صرخ صديقي "الديمقراطي" عبر الهاتف، في أول يوم يعود فيه إلى عمله بعد الاحتفالات التي شهدتها عطلة "يوم الذكرى" الموافق ليوم الاثنين 31 مايو الماضي. وبدون أن أسأله، عرفت أنه يقصد حادث تسرب النفط في خليج المكسيك، الذي تصدر نشرات الأخبار والتغطيات التلفزيونية، والذي دخل شهره الثاني دون أن يلوح له حل قريب في الأفق. وطبعاً لم أقل لصديقي على الهاتف إن هذا ليس هو "أسوأ شيء يمكن تخيله" كما كان يظن، وإنما ظل هناك دوماً ما هو أسوأ بكثير. ذلك أن الذاكرة عادت بي إلى الماضي، وتحديداً إلى الزمن الذي وجد فيه رئيس "ديمقراطي" أسبق هو "جيمي كارتر" نفسه يواجه مأزقاً شبيهاً لا يستطيع الخروج منه، هو ذلك الذي ترتب على اقتحام سفارة الولايات المتحدة في طهران عام 1979، واحتجاز 52 مسؤولا وموظفاً كرهائن لمدة 444 يوماً متواصلة وقفت الولايات المتحدة خلالها، وبكل ما لديها من إمكانيات، عاجزة عن إنقاذهم من الأسر بعد أن فشلت كافة الاتصالات والمحاولات الدبلوماسية في تحقيق شيء. ولاشك أن كثيرين منا، وخاصة من هم في الأربعينيات من أعمارهم الآن على الأقل، يتذكرون تلك الأحداث من خلال تذكرهم لذلك البرنامج الإخباري اليومي الذي كانت محطة "آيه بي سي" التلفزيونية تبثه يوميّاً عن تطورات الأزمة، والذي اختير له في ذلك الوقت اسما دالا هو "أميركا قيد الأسر"، ويقدمه مذيع كان ملء السمع والبصر في ذلك الوقت يدعى "تيد كوبيل". ومنذ ذلك الوقت، مثلت الأحداث بكل ملابساتها وتطوراتها ما عرف في التداول الإعلامي بـ"اللحظة الكارترية"، التي يقصد بها توقف رئيس أكبر دولة في العالم عاجزاً عن القيام بأي شيء من أجل حل مشكلة كانت تمثل في ذلك الوقت إهانة كبرى للنفوذ والكبرياء الأميركيين بكل ما في ذلك من معنى. وتلك الأزمة نشاهد شبيهاً لها في الوقت الراهن عندما نرى شركة "بي بي" العملاقة للنفط، بكل إمكانياتها المادية والتقنية الهائلة، عاجزة تماماً عن العثور على حل لهذا المأزق، الذي يكلفها مليارات الدولارات، ولا يلوح له حل قريب في الأفق. وما رأيناه حتى الآن فيما يتعلق بالطريقة التي يتعامل بها أوباما مع هذه المشكلة هو حرصه فقط على الظهور بشكل متكرر، ودون مقدمات في مواقع مختلفة على السواحل الأميركية المواجهة لمكان تسرب النفط، محاولا إعطاء انطباع بأنه يتابع الموضوع باهتمام، وأنه يمسك بزمام القيادة فيه بنفسه ولا يكلف من هم دونه مرتبة بمتابعته. ولا بأس أيضاً إذا تولد انطباع لدى المشاهدين بأن أوباما يرفض الجلوس في البيت الأبيض واضعاً يده على خده نادباً حظه، غير قادر على فعل شيء، كما كان الحال مع كارتر في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي إبان أزمة الرهائن. في ذلك الوقت سمح كارتر بتردده وعجزه، بأن يجعل إحباطه الشخصي يتحول إلى إهانة جماعية للأمة الأميركية بأسرها. وحتى عندما قرر أن يحزم أمره، أو ما رآه كذلك بعد طول تردد، وقرر القيام بعملية إنقاذ للرهائن، شاء سوء حظه العاثر، وسوء حظ أميركا معه، أن تتصادم الطائرات العمودية التي أرسلها لتنفيذ عملية الإنقاذ سيئة التخطيط في الجو وتتحطم في رمال الصحراء الإيرانية، قبل أن تصل إلى الرهائن الذين كانت تريد تخليصهم. وقد نظر إلى ذلك الحادث الكارثي في ذلك الوقت على أنه يمثل دليلا نهائيّاً على أن النحس سيحيط بأي شيء يحاول كارتر القيام به من أجل إنقاذ الرهائن. وكان هذا حقاً هو "أسوأ ما يمكن تخيله"، ولكن مع ذلك، وليسمح لي زميلي الذي اتصل بي عبر الهاتف، أن اختلف معه، لأقول إننا، وعلى رغم كل شيء، لم نصل بعد إلى تلك النقطة الحرجة في الوقت الراهن. فنحن نشعر بأننا قد رأينا فيلماً عن شيء مشابه لما يحدث في خليج المكسيك في الوقت الراهن، ونعرف كيف سينتهي الموضوع سياسيّاً، وكيف أن شخصاً ما سيظهر، في وقت ما، ليقول لنا، إنه يستطيع إيجاد حل لهذه المشكلة أو إنهاءها تماماً. ولعل هذا هو الشيء الذي يجعلني أقول إن "الديمقراطيين" على حق في أن يكونوا في غاية التوتر، وهم يرون المشكلة تتواصل، وتدخل في شهرها الثاني، على رغم كل الشروح، والتفسيرات الفنية، والوسائل المقترحة من قبل الخبراء لحل الأزمة، التي دأبوا على تردادها على مسامعنا في البرامج المختلفة في وسائل الإعلام. وكان الأميركيون إبان أزمة الرهائن في طهران، وإبان اللحظة "الكارترية" قد سمعوا شيئاً مماثلا أيضاً.. عن خطط ودراسات أجراها الخبراء العسكريون الاستراتيجيون، وعرفوا من خلالها أين يحتفظ الإيرانيون بالرهائن.. بيد أن كل ذلك كله لم يفد كارتر في شيء، ولم ينقذه من سوء الحظ العاثر الذي لازمه حتى النهاية. وليس هناك الآن شيء يمكن أن يساعد أوباما على تجنب تلك اللحظة "الكارترية" سوى أن يتوصل المهندسون والخبراء الذين يضطلعون في الوقت الراهن بمحاولات إيقاف ذلك التسرب النفطي، وإغلاق مصادر التلوث، إلى حل نهائي لهذه المشكلة العويصة فعلا. صحيح أن أوباما لم يتمكن من تجنب وقوع تلك المشكلة منذ البداية، وصحيح أيضاً أنه كان بطيئاً في الإشارة إلى مدى خطورتها، ولكنه، في جميع الأحوال، أصبح يمسك بزمام المشكلة في الوقت الراهن. وإلى أن تنتهي هذه المشكلة بالفعل، فإن ما نراه أمامنا هو أن الرجل الذي سعى لأن يكون نسخة من "جون كنيدي" أو حتى من "فرانكلين روزفلت"، سيكتفي بأن يأمل من صميم قلبه ألا ينتهي به المآل إلى مصير مثل مصير "كارتر" ولحظته المارثية، التي لا تزال عالقة بالذاكرة الأميركية. ديفيد إس. برودر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"