جهاز تحديد الموضع... تعطيل للدماغ!
قبيل الفجر بقليل، صبيحة يوم 19 يونيو 2009، دهست سيارة مسرعة سيدة نيويوركية تدعى "لورين روزنبرج" أثناء عبورها طريقاً رئيسياً يتكون من أربع حارات، ويقع في"بارك سيتي" بولاية أوتاه. وفي الشهر الماضي، وبعد مرور عام 11 شهراً على ذلك الحادث الذي خرجت منه بإصابات متعددة، رفعت "روزنبرج" قضية على مؤسسة "جوجل"، مدعية أنها في عبورها ذلك الطريق كانت تتبع تعليمات موقع" خرائط جوجل"، وطالبت بمنحها تعويضا عن الضرر مقداره 100 ألف دولار لتعويض قيمة فواتير العلاج.
وفي رأيي أن توجيه اللوم لجوجل على حادث مثل هذا يعتبر نوعاً من المبالغة، لأن استخدام أي نظام للخرائط، يتطلب عناية وحذراً من المستخدم، علاوة على أن ذلك الموقع تحديداً يتضمن تحذيرات تطلب من مستخدمي النظام تجنب أماكن العبور الخطرة.
لكن مما لا شك فيه أن هناك تغيرات كبيرة قد طرأت على الطريقة التي يتنقل بها الناس من مكان إلى آخر هذه الأيام، سواء داخل المدن أو خارجها. فقد أصبح معظمنا يميل إلى استخدام المعلومات المولدة من الكمبيوتر أو أجهزة البلاك بيري للاهتداء بها في التنقل. وفي كثير من الأحيان أدت تلك المعلومات والأجهزة مهمتها على خير ما يرام، وفي أوقات أخرى كانت سبباً لإنقاذ حياة البعض ممن تقطعت بهم السبل وضلوا الطريق، لكنها وفي أوقات أخرى كانت سبباً في تضليلهم من خلال تقديم معلومات غير دقيقة أو مغلوطة عن غير قصد.
المهم أن الإحساس الذي يتولد عند الكثيرين ممن يتنقلون في أماكن خطرة أو بعيدة هو أنه طالما أن جهاز تحديد الموضع عالمياً GPS موجود في حقيبتهم، فإن ذلك يعني أنهم سيظلون متصلين بالحضارة والعمران وأنهم لن يضلوا طريقهم أبداً.
لكن ما يحدث في الواقع هو أن هذه الأجهزة، ونظراً لاعتمادها على برامج كمبيوتر مبنية بدورها على حسابات وأرقام معينة، قد تقود البعض إلى سلوك طرق معقدة أو حتى خطرة.
وفي كثير من الأحيان تنسب العديد من الحوادث إلى جهاز GPS. ففي الشهر الماضي، على سبيل المثال، وفي ولاية نيوجرسي، تسبب سائق يتبع حرفياً التعليمات التي قدمها له الجهاز في وقوع حادث اصطدام رهيب شمل أربع سيارات.
إن ما يحدث في الغالبية العظمى من الحالات، هو أننا عندما نقوم بتشغيل تلك الأجهزة، نقوم في ذات اللحظة تقريباً بإغلاق قدرتنا على الإدراك والحس السليم، ونتوقف عن الاهتمام بالطريق الذي نمضي فيه، على أساس أن الجهاز سيتكفل بإرشادنا لذلك.
وهناك مؤشرات علمية أكثر تشاؤماً تقول إن إفراطنا في استخدام مثل هذه الأجهزة قد ينتهي بإغلاق دوائر كهربائية معينة في أدمغتنا.
فباعتمادنا بشكل مكثف على جهاز تحديد الموضع عالميا، وموقع خرائط جوجل كذلك، فإننا نقلل الاعتماد على قدراتنا الملاحية الفطرية، أي قدراتنا على الاهتداء إلى الطرق السليمة بما يؤدي مع مرور الوقت إلى ضعف تلك القدرات. وفيما يتعلق بأطفالنا، فلو بدؤوا باستخدام مثل تلك الأجهزة منذ نعومة أظفارهم، فمعنى ذلك أنهم لن ينموا هذه القدرات في الأصل، وبالتالي سوف يصبحون أكثر اعتماداً منا على تلك الأجهزة، وبمرور الوقت يفقدون إحساسهم بالواقع الذي يعيشون فيه.
وتشير دراسة شهيرة أجريت على سائقي التاكسي في لندن في أواخر التسعينيات إلى أن اعتماد هؤلاء السائقين على ذاكرتهم الملاحية، والتي كانت تمكنهم من الاهتداء إلى طريقهم دوماً وعدم الضياع في شبكة طرق لندن المعقدة، قد أدى بمرور الوقت إلى زيادة حجم تلك المنطقة الموجودة في الدماغ والتي تجري فيها عمليات التذكر ويطلق عليها Hippocampus.
وقد أجرت البروفيسورة "فيرونيك بوهبوت"، أستاذة علم النفس في جامعة "ماكجيل" بمونتريال، دراسات وأبحاثا مكثفة حول العلاقة بين حجم ذلك الجزء من دماغ الإنسان، والدرجة التي نستخدم بها قدراتنا وإمكانياتنا الملاحية. وتقول "بوهبوت" إن هناك أدلة كافية على أن عدم استخدام تلك القدرات أو الاستغناء عنها لحد كبير، يؤدي مع مرور الوقت إلى ضمور تلك المنطقة من دماغ الإنسان، مما قد يؤدي في سنوات العمر المتقدم إلى أمراض مثل النسيان والزهايمر.
وقالت "بوهبوت"، في مقابلة مع الصحفي "أليكس هاتشينسون" حول هذا الأمر: "من واقع تلك الدراسات، أستطيع القول إننا سنشهد ارتفاعاً كبيراً في حالات الإصابة بمرض النسيان أو الزهايمر بسبب الاعتماد المتزايد على المعلومات المستخرجة من الأجهزة التي تعمل بالكمبيوتر".
لا تزال هناك الكثير من الآراء حول هذا الأمر. وقد تثبت دراسات وأبحاث أخرى أن النتائج التي توصلت إليها "بوهبوت" لا أساس لها من الصحة. لكن نتائج الدراسات التي أجرتها ونتائج دراسات أخرى، تدفعنا للانتباه كلما سمعنا صوتاً رخيماً صادراً من جهاز يعمل بالكمبيوتر يطلب منا الانحراف يساراً أو يميناً عند وصولنا إلى التقاطع التالي.
-----
نيكولاس كار
كاتب أميركي متخصص في شؤون العلوم والتقنية
-----
ينشر بترتيب خاص مع خدمة"واشنطن بوست"