توقعت سيطرة أخبار كأس العالم والفريق الفرنسي على اهتمامات باريس، وعلى المناقشات الدائرة في صالوناتها، لكني فوجئت بغير ذلك! تسيطر مباريات كأس العالم على كل شارع وحارة في أنحاء المعمورة، وهو أمر طبيعي ومتوقع في زمن العولمة وثورة الاتصالات، لكني رأيت في فرنسا هذا الأسبوع وضعاً مختلفاً. فباريس ليست مدينة النور في الملاهي والأزياء فقط، ولكنها أيضاً أساساً في الثقافة وصالوناتها. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون منا نحن المشارقة، فالأهمية الثقافية لباريس لا تقتصر على المغاربة في شمال أفريقيا الذين استعمرتهم وفرضت عليهم ثقافتها، بل تمتد إلى المشرق أيضاً. فالحملة الفرنسية على مصر 1798-1801 استمرت ثلاثة أعوام فقط، لكنها لا تزال تعتبر للكثيرين في مصر، وفي المنطقة العربية، على أنها بداية العصر الحديث والدخول إليه في العالم العربي. لقد اصطحب نابليون معه العسكر بالطبع، ولكن جاء معه جيش من العلماء، من بينهم شامبليون الذي فك طلاسم اللغة الفرعونية، وكذلك مجموعة من زملائه الذين قاموا بتأليف مجلدات "وصف مصر" والتي لا تزال بعد أكثر من قرنين مرجعاً عن بعض الأحوال المصرية. ثم اكتشفت مصر وبقية العرب، مع حملة نابليون العسكرية، آلة الطباعة التي نقلت المنطقة العربية إلى مستوى علمي آخر في الاتصال والتواصل. وبعد كل هذا التأثير الثقافي الفرنسي، لم يكن غريباً على طه حسين، عميد الأدب العربي، أن يختار باريس لكتابة أطروحته لنيل الدكتوراه عن ابن خلدون، ثم يقوم عملاق أدبي آخر، هو توفيق الحكيم، بكتابة رائعته "عصفور من الشرق"، وهو يكتشف الحب في باريس... وغيرهم كثيرون من فيصل بن جلون إلى أمين معلوف. تتزاحم هذه الأفكار في عقلك عند الوصول إلى باريس، فعندما تدخل طائرة "إيرفرانس" تشعر بجو التقاليد الفرنسية من طريقة حديث المضيفة أو حتى أسلوب ابتسامتها ونظراتها إن لم تنطق بكلمة، فهي في حيرة إذا كنت تعرف الفرنسية أم لا، وعما إذا كان عليها إذن أن تستخدم اللغة الإنجليزية أو تستعين بزميلها من أصول مغربية ليرحب بك. كل هذا بأسلوب يبدو تلقائياً، لكن في الواقع بأعلى مستويات المهنية، ثم بعد هذا الترحاب المبدئي يبدأ غزو أدوات الثقافة وفي مقدمتها جريدة "لوموند" التي تتفوق في رأيي على "نيويورك تايمز" في تفضيلها للتحليل على إعطاء الخبر فقط. وكبقية جرائد العالم، كانت "لوموند" أيضاً تُظهر كأس العالم في جنوب أفريقيا، ولم يدهشني هذا بسبب مكانة فرنسا الكروية، بل توقعت أن تسيطر معارك كأس العالم على النقاش الدائر في باريس، فقد فازت فرنسا بكأس العالم من قبل، وفي المرة الأخيرة، دورة عام 2006، كادت تفوز به مرأة أخرى تحت قيادة النجم الجزائري زين الدين زيدان، لكن الفريق الإيطالي خطف اللقب في آخر لحظة بعد أن أعد فخاً لزيدان، بل إن أحد نجوم الكرة العالمية، وأحد أعمدة "الفيفا" حالياً، لا يزال اللاعب الفرنسي "بلاتيني". كنت أتوقع إذن سيطرة أخبار كأس العالم والفريق الفرنسي على اهتمامات باريس، وعلى المناقشات الدائرة في صالوناتها، لكني فوجئت بغير ذلك! كان النجم الذي سرق الأضواء هو الزعيم التاريخي الجنرال شارل ديجول، وكانت المناسبة إعلان المقاومة ضد الاحتلال الألماني الذي بدأ بعد اجتياح فرنسا عقب بداية الحرب العالمية الثانية. وبينما تم تشكيل حكومة استسلام موالية للاحتلال بقيادة الجنرال "بيتان"، قام ديجول بإعلان رفض الاحتلال في خطاب من لندن، في 20 يونيو 1940، أي منذ 60 عاماً بالضبط، فأصبح ديجول في خطابه ذاك يمثل تجسيداً لما سمي من بعد "فرنسا الحرة" في مواجهة فرنسا المحتلة. ومع الانتصارات المتوالية لألمانيا النازية واجتياحها معظم أوروبا، توقع الكثيرون أن يكون نداء ديجول للمقاومة مجرد حيلة من الحلفاء ضد النازية، لكنها حيلة محكوم عليها بالفشل في وجه القوة الألمانية الجبارة. إلا أن ديجول استطاع أن يصمد ويعبئ أجزاءً من الداخل الفرنسي لمقاومة الاحتلال، وفي النهاية نجحت حركة فرنسا الحرة تحت قيادته وتم تحرير فرنسا وهزيمة ألمانيا النازية نفسها، ودخل ديجول باريس دخول القائد المنتصر ليصبح تجسيداً لفرنسا بعد ذلك ولروحها في الإصرار على الاستقلال الوطني ومكانتها كقوة عظمى. كان ديجول متكبراً بعض الشيء ويصر على آرائه بالنسبة لمستقبل فرنسا، كعادة الكثير من القادة التاريخيين، واضطر في النهاية إلى ترك رئاسة الجمهورية في سنة 1969؛ لأن شعبه لم يصغ إليه كما يريد، وعاش في عزلة في قريته حتى وفاته في السبعينيات. لكني رأيت شعبه ينشر صوره في كل مكان ويستشهد بكثير من أقواله، وينسى ولو لأيام، كأس العالم في جنوب أفريقيا، ليعيش مع قائد يجسد تاريخه. ألا ينتصر التاريخ على الرياضة في الأمم العظيمة؟