غذاؤك دواؤك!
يدرك الأطباء منذ عهد أبوقراط وابن سينا أهمية العلاقة بين الغذاء والصحة والمرض، وإن كان الطب الحديث لا زال يكتشف يوماً بعد يوم حتى الآن مدى قوة هذه العلاقة، واتساع تأثيراتها الصحية والطبية، وبدرجة لم تكن لتخطر أبداً على أذهان الأطباء قبل بضع سنين مضت. وقوة هذه العلاقة واتساع تأثيراتها، يتضحان من حقيقة أنه من النادر أن تخلو الأخبار الصحية خلال فترة أسبوع مثلا من خبر أو أكثر عن العلاقة بين الغذاء والصحة والمرض. فعلى سبيل المثال نشرت مجموعة من الباحثين في جامعة هارفارد يوم الاثنين الماضي نتائج دراسة موسعة خلصت إلى أن تناول الأرز الأبيض يزيد من احتمالات الإصابة بداء السكري، مقارنة بتناول الكمية نفسها من الأرز الأسمر، فمن خلال استبيان أجري على 200 ألف شخص، اكتشف الباحثون أن من يتناولون خمس وجبات -150 جراما- أو أكثر من الأرز الأبيض خلال الأسبوع الواحد، تزداد لديهم احتمالات الإصابة بداء السكري بنسبة 17 في المئة. وفي الوقت نفسه انخفضت احتمالات الإصابة بالسكري بين من يتناولون وجبتين أو أكثر من الأرز الأسمر، وبنسبة 11 في المئة، عن معدل انتشار المرض بين بقية أفراد المجتمع. ويفسر العلماء نتائج هذه الدراسة على أنها ربما تكون بسبب كون الأرز الأبيض يسبب ارتفاعاً حادّاً في مستوى السكر في الدم، وخلال فترة زمنية صغيرة بعد تناول الوجبة. بينما يتمتع الأرز الأسمر، مثله مثل الأطعمة المحتوية على نسبة مرتفعة من الألياف، في رفع مستوى السكر في الدم بشكل بطيء وتدريجي. والخلاصة هي أنه يتعين على كل محبي الأرز الأبيض، وخصوصا بين زائدي الوزن والمصابين بالسمنة أو من لديهم تاريخ عائلي من مرض السكري، التفكير جديّاً في التقليل من كميات ما يستهلكونه من الأرز الأبيض، وربما استبداله تماماً بالأرز الأسمر، إن أمكن.
وفي اليوم التالي، أو يوم الثلاثاء، أظهرت أيضاً نتائج دراسة أوروبية أن الأشخاص الذين يتمتعون بتركيزات مرتفعة بدمائهم من فيتامين (ب)، يتمتعون بوقاية نسبية ضد سرطان الرئة، مما يخفض من احتمالات إصابتهم بالمرض، حتى ولو كانوا من المدخنين. والمعروف أن فيتامين (ب) يتواجد طبيعيّاً في المكسرات، والأسماك والأطعمة البحرية، واللحوم، كما أنه من الممكن تناوله في شكل حبوب وكبسولات. ومن المعروف أيضاً أن سرطان الرئة يعتبر من أخطر الأمراض السرطانية على الإطلاق، ليس فقط لأنه ضمن أكثر أنواع السرطان انتشاراً، بل أيضاً بسبب ارتفاع نسبة الوفيات الناتجة عنه. وعلى رغم أن سرطان الرئة يحتل المرتبة الثانية على قائمة الأمراض السرطانية الأكثر انتشاراً، نجده يأتي على رأس قائمة الوفيات الناتجة عن جميع أنواع السرطان، نتيجة تسببه في مقتل ثلاثة ملايين شخص سنويّاً حول العالم.
ولم يستطع العلماء في دراستهم تلك بعد وضع أصابعهم على الكيفية التي يحقق بها فيتامين (ب) الوقاية من هذا المرض الخبيث، إلا أن بعضهم رجح أن يكون السبب هو كون الأشخاص الذين يتمتعون بتركيزات مرتفعة من ذلك الفيتامين في دمائهم، يعتمدون في الأساس على غذاء صحي متوازن، ويعيشون حياة صحية إلى درجة كبيرة، وهو ما يحقق وقاية ضد معظم أنواع الأمراض السرطانية، بوجه عام. وبغض النظر عن ماهية العلاقة بين فيتامين (ب) وبين سرطان الرئة، تظل الحقيقة الأساسية التي لا خلاف عليها هي أن الامتناع عن التدخين لا زال هو الإجراء الأكثر فعالية على الإطلاق في الوقاية من الإصابة بسرطان الرئة، وحزمة أخرى من الأمراض السرطانية.
وعلى نفس منوال أخبار العلاقة بين الغذاء وبين الصحة والمرض، أعلنت مجموعة من الباحثين الهولنديين يوم الجمعة الماضي أن تناول ما بين كوبين إلى أربعة أكواب من الشاي أو القهوة بانتظام خلال اليوم، يحقق وقاية ملحوظة وبمقدار الثلث من أمراض القلب، حسب دراسة استغرقت ثلاثة عشر عاماً، وشملت أربعين ألف شخص. وهو ما يمكن أن يضاف إلى قائمة الفوائد الصحية للشاي والقهوة، التي أصبحت الدراسات المتتابعة تظهر جوانبها المختلفة واتساع تأثيرها.
وأخيراً ضمن مقتطفات الأخبار الصحية كذلك، أعلن يوم الاثنين الماضي علماء المعهد القومي للتميز الطبي، وهو إحدى أهم الجهات العلمية التابعة للنظام الصحي الوطني في بريطانيا، عن دعم علمائه لفرض حظر تام على استخدام الدهون المهدرجة أو المتحولة في جميع أنواع الغذاء. ويتطابق هذا الموقف مع التوصية التي أطلقتها كلية الصحة العامة ببريطانيا سابقاً، ودعت فيها أيضاً إلى منع استخدام الدهون المتحولة أو المهدرجة في جميع مكونات الغذاء دون استثناء. وتتواجد هذه الدهون غير الطبيعية، أو الاصطناعية، في الكثير من المخبوزات مثل البسكويت، والكعك، وتستخدم على نطاق واسع من قبل أطعمة الوجبات السريعة. وفي السنوات الأخيرة أظهرت الدراسات العلمية أن خفض استهلاك الدهون المتحولة بمقدار واحد في المئة فقط، يمكنه أن يمنع 7 آلاف وفاة سنويّاً بسبب أمراض القلب والشرايين في بريطانيا وحدها، وهو الرقم الذي يبلغ أضعافاً مضاعفة على مستوى العالم بالطبع. وهذا السيل المتتابع من الأخبار حول العلاقة بين طبيعة الغذاء، ومكوناته، وطرق تصنيعه، يؤكد الشكوك الحالية التي تراود أفراد المجتمع الطبي، من أن تغير العادات الغذائية وطبيعة الغذاء بوجه عام خلال العقود القليلة الماضية، ربما يكون هو العامل المشترك خلف العديد من الأوبئة التي أصبحت تسري بين أفراد الجنس البشري سريان النار في الهشيم، مثل وباء السكري، ووباء السمنة، وأمراض القلب والشرايين، اللذين تنتج عنهما أعداد هائلة من الوفيات بسبب الذبحة الصدرية أو السكتة الدماغية.
د. أكمل عبد الحكيم