غريبة حقاً تصريحات الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الأخيرة حول تقليص سقف المطالبة بحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم ليشمل فقط 200 ألف من سكان المخيمات الفلسطينية في لبنان، والتي أكد فيها أيضاً تفهمه للمطلب الإسرائيلي بأن تبقى إسرائيل "دولة يهودية". على أنها ليست المرة الأولى فقد سبق لياسر عرفات أن أدلى بتصريحات كهذه لصحيفة "نيويورك تايمز" في سنة 1999 ثم عاد وتراجع عنها، وها هو يعود لإطلاقها مرة أخرى من خلال التخلي عن حق إنساني تكفله كل الشرائع والقوانين لجزء من الشعب الفلسطيني، والقبول في الوقت نفسه بأن يكون الكيان الإسرائيلي دولة فريدة من نوعها في هذا العالم بقيامها على أساس ديني، وعلى أرض مغتصبة، وبممارسات تشكل في حد ذاتها جريمة مستديمة ومزدوجة: إذ تقوم بتهجير الفلسطينيين من وطنهم أولاً، ثم تهجِّر، ثانياً، الروس والإثيوبيين والبولنديين وغيرهم من أوطانهم لتزرعهم، ظلماً وعدواناً، في فلسطين.
والخطير في تصريحات عرفات ليس فقط حجم التنازل، ولا ما يمكن أن يثار من جدل حول أحقيته في إعطائه دون إجراء استفتاء على الأقل لمعرفة آراء اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم في الأمر، وليس فقط في أنه يسحب من المفاوض الفلسطيني، في المفاوضات الآتية لا محالة، إمكانية إثارة معظم الأوراق، لأن الإسرائيليين سيصرون على الانطلاق من هذه النقطة التي أوصل إليها عرفات خريطة المواقف، وإنما الأخطر من كل ذلك أن هذا التنازل الكبير جاء مجانياً، هكذا فجأة ودون ضمانات مقابلة، ويكفي أن الأصوات ارتفعت في إسرائيل تنادي بعدم تصديق عرفات وتصريحاته المزدوجة بخصوص إسرائيل و"حماس".
إن أحد أهم أسباب إخفاق المجتمع الدولي في إيجاد تسوية حقيقية وعادلة للصراع العربي- الإسرائيلي، هو الازدواجية في معايير القوى العظمى من جهة، والازدواجية أيضاً في معايير القيادة الفلسطينية، ويقدم "أبو عمار" خاصة أحد أقوى الأمثلة عليها. ولا أدل على ذلك من أنه هو نفسه صرح في 15/5/2004 بأنه لا تنازل عن الحقوق الفلسطينية، وقرأ الآية الكريمة:"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"، واستخدم خطاباً قاطعاً وحازماً يفيد تفضيله لخيار المواجهة والثبات على المطالبة بجميع حقوق الشعب الفلسطيني، وها هو يستدير الآن بعد شهر واحد استدارة كاملة، بزاوية 180 درجة تقريباً. هذه الازدواجية هي مشكلة عرفات، ففي مقابلاته مع الصحافة العربية وحشود الانتفاضيين يتحول إلى ثائر، لا يعرف أنصاف الحلول، ويستخدم لغة محمومة، ثورية، وأحيانا "جهادية". وفي الصحافة الإسرائيلية والغربية، يتخذ مواقف عكس ذلك. وبهذا تضيع فرصة إيصال رسالة قوية وواضحة عن مطالب مشروعة للفلسطينيين، في الحصول على دولة ووطن حر فوق الأرض وتحت السماء، كجميع خلق الله.
إن هذا التكتيك لن يعود على عرفات بمكاسب سياسية شخصية، ولن يفيد في إعادة "التأهيل" وتجاوز الشعار الإسرائيلي المرفوع، الذي أصبح أيضاً شعاراً أميركياً مع مرور الوقت، والقائل إنه لا يوجد شريك في عملية السلام. وهكذا يأتي هذا الموقف، أو التكتيك، ليشكل سقطة سياسية خطيرة، وقصيرة النظر، ليعطي الإسرائيليين تنازلا رخيصاً وبدون أية ضمانات، وعلى نحو يطبق الواقعية السياسية بشكل مغلوط.
ما يحتاجه الفلسطينيون، هو النظر إلى آفاق الصراع البعيدة الاستراتيجية والحضارية، دون خوض بالأرجل في أوحال التفاصيل المرحلية الصغيرة، أو ارتهان لمواقف تكتيكية تنقشع بسرعة، كسحابة صيف.