إثر استقالة "جورج تينيت" من منصبه كمدير لـسي آي إيه، طُرحت أسئلة حول حالة المعلومات الاستخباراتية الأميركية عن العالم العربي وما يمكن فعله لتصحيح أخطاء الماضي.
وينبغي التنويه إلى أن المشكلات الأساسية التي ساهمت في إخفاقات السياسة الأميركية تحدث على مستوى مختلف. ولا يعني ذلك أن الولايات المتحدة تتلقى معلومات استخباراتية سيئة أو حتى غير كافية، بل يعني أن سياستها والقيود التي تفرضها تعمل كمصفاة من النادر أن تستبعد المعلومات الاستخباراتية الجيدة. وهناك اليوم عدد من المتخصصين الموهوبين العاملين في وكالات كثيرة أميركية حكومية لجمع المعلومات الاستخباراتية عن العالم العربي لتقديم تعليقات إلى صنّاع السياسة في واشنطن. وهؤلاء المتفانون، من دبلوماسيين مؤهلين وضباط ومسؤولين حكوميين خدموا في كل بلدان الشرق الأوسط، ويعرفون ثقافة وسياسات المنطقة ومشكلة تعامل الولايات المتحدة مع الواقع العربي والهموم العربية. وممّا سبب الإحباط لهؤلاء، والأذى لمصالح أميركا وشعوب المنطقة، أن معلوماتهم الاستخباراتية لا تلعب دوراً حاسماً في تقرير السياسة الأميركية.
وكما رأينا في الصراع العربي- الاسرائيلي، وكما نعلم عمّا حدث في فترة الحشد لحرب العراق، صارت السياسة تعمل بالمقلوب. فبدلاً من التقييمات الاستخباراتية الموضوعية التي تصوغ السياسة، تصاغ السياسة الأميركية حيال أهم المسائل الشرق أوسطية بفعل الاعتبارات السياسية، إذ يهمل القادة السياسيون المعلومات الاستخباراتية التي تناقض مسارهم المختار، ويسعون إلى الحصول على المعلومات الاستخباراتية التي تنسجم مع حاجاتهم. وتتأصل في العملية المصابة بالعيوب قابلية السقوط أمام أخطار متعددة:
1) لحاجتهم إلى المعلومات لإضفاء الشرعية على آرائهم المقررة سلفاً، صار المتعصبون لأيديولوجيات سياسية يعتمدون على مصادر ومرؤوسين بعقلية مشابهة. وهكذا ينعزل النظام عن الآراء البديلة ويعمل للحفاظ على عزلته. ويتعلم المسؤولون المرؤوسون الامتناع عن إبلاغ "رئيسهم" بما لا يريد أن يسمع، فيصبح ما يريد سماعه "مهمة سهلة جداً". 2) بسبب قوتنا وقدرتنا على التأثير في مصير الأمم، كثيراً ما نخلط بين الاسترضاء والمبالاة، من جهة، والاتفاق من جهة أخرى. ويُعطى نفوذ في غير محله للموالين للغرب أو أصحاب الأجندات الخاصة والذين يعلمون كيف يلعبون معنا. 3) عندما يرفع الواقع رأسه، يصير من لهم حصة في المحافظة على المبادرات السياسية الجارية أقرب إلى الموقف الدفاعي وأشد عزماً على شطب الآراء المعارضة. وهكذا، مع اشتداد التوترات واتساع نطاق الفجوة بين أميركا والعالم العربي، لم تنفتح سياستنا على المعلومات الجديدة، بل آثرت الرد بالسخرية من، أو إقصاء الذين يتحدون المعتقدات الأساسية التي تبقي الواقع الراهن على حاله. 4) لأن الدوافع السياسية- الدافعة لهذه العملية وهذه السياسات- تستند إلى التصور وليس إلى الواقع، سُمح بتدهورها دون حل أو تغيير في المسار، فهي عملية ليست معنية بالحلول الحقيقية بل بأشباه الحلول، أو على الأقل بحالات يمكن تفسيرها. وهكذا، وعلى رغم المشكلات العميقة المتواصلة، يمكننا الاعتقاد بأننا انتصرنا في أفغانستان، وبأن العراق على طريقه الديمقراطية، وبأن الفلسطينيين ستكون لهم دولتهم.
وتتواصل هذه الحال ما دامت المشكلة المطروحة لا تخرج عن السيطرة وبالتالي يتعذر تفسيرها. وإذا حدث ذلك، فأول ما يميل إليه أصحاب المصلحة في الإبقاء على السياسة الراهنة هو إيجاد طريق إلى تحويل اللوم لصبه على عامل خارجي- وليس على السياسة نفسها. ففي رأيهم أن المشكلة في العراق ليست إخفاق السياسة أو الأيديولوجيا الخاطئة التي توقعت "كسباً سريعاً" ثم "نشر الديمقراطية"، بل في "المستميتين" و"القتلة" و"الدخلاء".
وفي حالة إسرائيل، لا يكمن العيب في سلطات الاحتلال والدعم الأميركي، بل في "رفض الفلسطينيين للسلام".
وفي عالم مقلوب رأساً على عقب بفعل عملية كهذه، ليست هناك آلية داخلية للتصحيح الذاتي. فالإمبراطور لا ثياب عليه، ولن يخبره بذلك أولئك المقربون إليه. نحن لا نعترف بأي إخفاق. وإذا تم الحفاظ على السياسة المخفقة، بفعل القوى السياسية القوية، فإن الموالين لها سيجربون كل أنواع الابتزاز والضغط لكي يبرروها. فما سبب الغضب الواسع المعادي للأميركيين في العالم العربي؟
أصحاب المصلحة في إبقاء السياسة الراهنة يرفضون نقد الذات، ويصرّون على أن العيب في مكان آخر فيعتقدون أن العرب غاضبون علينا فقط لأنهم عُلِّموا كيف يكرهوننا ولأن أنظمتهم تستخدم هذه الكراهية لتحويل الانتباه عن تقصيرها.
وهذا ما ولّد "مبادرة الشرق الأوسط الأوسع" وما يدعى بـ"الدبلوماسية العامة". وفي خطابه أمام كلية الحرب مؤخراً قال بوش:"نؤمن بأنه عندما يُسمح أخيراً لشعوب الشرق الأوسط بالتفكير والعمل والعبادة بحرية، فستستعيد عظمة تراثها... وستتلاشى الكراهية والمرارة التي تغذي الإرهاب. وستكون أميركا والعالم أكثر أمناً عندما يعود الأمل