في الثلاثين من يونيو الجاري ينتهي وجود سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق. وعندئذ ستتولى حكومة عراقية مؤقتة إدارة شؤون البلاد حتى موعد الانتخابات في يناير 2005. وعلى رغم أن نقل السيادة يشكل نقطة تحوّل مهمة، يقول العراقيون إن الشرعية الحقيقية لن تتحقق إلاّ بالانتخابات.
لكن القرارات التكنوقراطية المعنية بهذه الانتخابات تهدد الآن بتقويض قدرة أية ديمقراطية على الاستمرار في البلاد. وهناك طريقتان لإجراء الانتخابات المباشرة: أولاً، قوائم مرشحي الأحزاب، حيث يفوز كل حزب بتمثيل له في الحكومة وفقاً لحصته في الأصوات، وثانياً، إشراك الدوائر الانتخابية التي يمثلها عضو واحد. وفي الرابع من يونيو الجاري، وافقت "كارينا بيريللي" رئيسة وحدة الانتخابات في الأمم المتحدة على قوائم مرشحي الأحزاب العراقية.
وعندما كنْتُ مستشاراً جوّالاً لسلطة الائتلاف المؤقتة، كنت أقطن خارج المنطقة الخضراء في بغداد وأتفاعل ليس فقط مع الساسة العراقيين، بل مع عامّة العراقيين أيضاً. وكانت الانتخابات هي موضوع الأحاديث في المقاهي والمساجد العراقية. وقد مالت الأحزاب الإسلامية إلى تأييد نظام قوائم المرشحين. أمّّا أنصار إقامة جمهورية إسلامية على غرار إيران فكانوا صريحين دون مواربة، حيث قال هادي المدرّسي، وهو أحد أهم رجال الدين الشيعة في كربلاء، لصحيفة "الحياة" اللندنية "إن البند الأول في ديمقراطية ما هو قاعدة سيادة الأغلبية على الأقلية".
لكن العراقيين الليبراليين يميلون إلى نظام الدوائر الانتخابية. ويدعو "قانون إدارة الدولة العراقية في الفترة الانتقالية" إلى تشكيل جمعية وطنية من 275 عضواً، ما يعني أن كل عضو من هؤلاء سيمثل 87 ألف عراقي تقريباً. أما المنافسات فلن تجري بين الأحزاب، بل بين الأفراد الذين سيكونون عرضة للمساءلة أمام السكان المحليين وليس أمام زعماء الأحزاب. ومن الممكن لأعضاء مجلس الحكم السابق، الذين اعتبرهم بول بريمر أنهم بلا أهمية، أن يفوزوا بتمثيل بعض المناطق. وتتمتع رجاء الخزاعي الشيعية المجاهرة بدفاعها عن حقوق المرأة بشعبية في بلدتها الديوانية. ويؤيد سكان مدينة الكاظمية رئيسَ المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي؛ ويتمتع عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بشعبية واسعة في مدينة النجف. أمّا من سيكونون أقل نجاحاً في الانتخابات فهم الذين لا يتمتعون بالكاريزما أو كانوا أعضاءً فاسدين في أحزاب معينة ويأملون بالفوز بالسلطة معتمدين على دعم زعماء أحزابهم.
ويؤيد العراقيون الأكبر سنّاً نظام الدوائر الانتخابية، حيث تترسخ في نفوسهم جذور انعدام الثقة في الأحزاب السياسية. وأشار استطلاع للرأي إلى أن الأحزاب السياسية تحظى بتأييد 3% فقط من هذه الشريحة. ويتذكر المتقاعدون عقد الستينيات كفترة اشتدت فيها المعارك في الشارع العراقي بين مؤيدي الأحزاب اليسارية والقومية. لكن الأجيال الأكثر شباباً تنظر إلى الأحزاب من خلال تجربة حزب البعث، حيث كان التوظيف يعتمد على بطاقة العضوية في هذا الحزب. ويمتد انعدام الثقة في الأحزاب إلى منطقة كردستان العراقية حيث عملتُ كمدرس في العام الدراسي 2000-2001. وبوجود استثناءات قليلة، تقترن الأحزاب الكردية في أذهان طلابي بالفساد وإساءة استخدام السلطة والمحسوبيات ومحاباة الأقارب.
لا بل إن "كارينا بيرللي" مسؤولة الأمم المتحدة أدركت شعور العراقيين بالاستياء من الأحزاب السياسية، وقالت للصحفيين في مايو الماضي "إن مشاعر العداء للأحزاب بين السكان قد بلغت أشدّها". لكن "بيريللي" شرحت في مؤتمر صحفي هذا الشهر سبب التخلي عن أخذ الدوائر الانتخابية التي يمثلها عضو واحد بعين الاعتبار وذلك لصالح إجراء الانتخابات على أساس قوائم مرشحي الأحزاب، حيث قالت "إن مجموعات سكانية كثيرة أصابها التفتت وتشتتت في أنحاء العراق... وتريد أن تكون قادرة على تجميع أصواتها والإدلاء بها مع أصحاب العقليات والآراء المشابهة".
وبهذه الجملة فقط، كان من شأن "بيريللي" أن تضع العراق على منحدر زلق يؤدي به إلى نظام طائفي على الطريقة اللبنانية. وبحسب كلام عضو في لجنة الانتخابات العراقية، وافق بريمر على نظام القوائم الحزبية لتجاوز السؤال الصعب المعني بهوية الناخب وأين ينتخب، وبذلك قايض بريمر السلامة الطويلة الأمد بالاستعجال القصير الأمد.
ويخفق تأييد الأمم المتحدة لنظام القوائم الحزبية في تصحيح أخطاء السنة الماضية. فعلى رغم أن بريمر اعتبر أن مجلس الحكم ليس ذا أهمية، كانت الحقيقة تحمل فروقاً أكثر دقة. فالكثير من العراقيين تبنّوا عقلية "طرد عديمي الفائدة" (التي يجاهر بها الأميركيون حيال الكونغرس) على رغم تأييدهم لممثليهم. وكان انعدام الثقة في مجلس الحكم صريحاً في بلدات مثل الكوت التي لا يمثلها أحد وبدرجة أكبر ممّا هو في مدن لها ممثلوها ومنها النجف.
ولن يعزز نظام القوائم الحزبية عملية التمثيل النيابي. فالكثير من العراقيين ينتمون إلى إثنية واحدة، لكنهم لا يشتركون ف