نجحت المضادات الحيوية خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين في إحداث ثورة في عالم الطب والعلاج، وهي ربما الثورة التي لم تضاهيها في عمق واتساع آثارها ثورة أخرى بالمرة في هذا المجال. ولكن في السنوات الأخيرة انقلبت الآية بشكل واضح، حيث تمكنت الميكروبات من إحراز النصر تلو الآخر في صراعها الأبدي مع الجنس البشري وأطبائه. وتبدأ قصة الجنس البشري والمضادات الحيوية منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، عندما اكتشف المصريون القدماء والصينيون وسكان أميركا الوسطى وقتها، أن العفن يمكن استخدامه في علاج الجروح المتقيحة، معتقدين أنه نوع من السحر يطرد الأرواح الشريرة، المسببة للتقيح والمرض. وظل الاعتقاد بوجود علاقة بين المرض والأرواح الشريرة سائداً في معظم المجتمعات البشرية البدائية واستمر حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1860 عندما اكتشف العالم الفرنسي لويس باستور وجود علاقة بين المرض وبين الكائنات المجهرية المعروفة بالبكتيريا. وبظهور هذه العلاقة ظهرت معها أيضاً بداية فكرة أنه يمكن التخلص من الأمراض المعدية، عن طريق قتل هذه الكائنات المجهرية بطريقة أو بأخرى. ويعتبر البنيسيلين أول مضاد حيوي، كان قد اكتشفه بالصدفة العالم البريطاني "آلكسندر فليمنج" عام 1929. ولكن لم تعرف إمكانيات البنيسيلين الحقيقية كسلاح فاعل ضد العديد من أنواع البكتيريا، إلا بحلول عقد الأربعينيات من القرن الماضي، مما أدى إلى بدء إنتاجه صناعياً بكميات هائلة، هو وبقية أنواع المضادات الحيوية المعروفة في ذلك الوقت.
ومنذ حينها استخدمت المضادات الحيوية لعلاج العديد من الأمراض البكتيرية الخطيرة، وفي السنوات الأولى كانت اليد العليا للعلماء وما يكتشفونه من أنواع جديدة من المضادات الحيوية، وهي الاكتشافات التي كانت تتم بوتيرة أسرع من قدرة البكتيريا على توليد مناعة ضدها. ولكن في السنوات القليلة الماضية بدأ العد العكسي، حيث أصبحت البكتيريا تولد مناعة ضد ما هو متوفر من مضادات حيوية، بشكل أسرع من قدرة العلماء على اكتشاف أنواع جديدة. فمثلاً في عقدي الخمسينيات والستينيات، كانت وسائل الإعلام العامة والمتخصصة، تحمل دائماً خبر اكتشاف نوع جديد من المضادات الحيوية الواحد تلو الآخر. وهو ما دفع الكثيرين وقتها للاعتقاد بأن الإنسان تمكن أخيراً من الانتصار على البكتيريا وما تسببه من أمراض. بل قام البعض بالإعلان بأن الحرب التي بدأت منذ الأيام الأولى لظهور الإنسان على سطح كوكب الأرض قد انتهت بالفعل، وأن مصير البكتيريا المرضية أصبح مثل مصير الديناصورات. ومع حلول عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وهي الفترة التي تباطأت فيها وتيرة الاكتشافات الجديدة، واقتصر التطور على تحسين الأنواع الموجودة، أدرك العلماء أن البكتيريا احتفظت لنفسها بالضحكة الأخيرة والتي ضحكتها كثيراً.
هذا الموقف عبر عنه بشكل جلي تقرير اللجنة الاستشارية الطبية التابعة للحكومة البريطانية في تقريرها الشهير (The path of Least Resistance) أو "الطريق إلى مقاومة أقل"، حينما كتب القائمون على التقرير قائلين: في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، انتشر بين الأطباء والمتخصصين شعور من عدم الارتياح، نتيجة ما يلاحظه الجميع من أن البكتيريا أظهرت قدرة في التفوق على أحدث ما وصل إليه الطب، في الوقت الذي تضيق وتتراجع فيه اختيارات العلاج المتاحة للمرضى وأطبائهم. هذا الإحساس العام، توالت الأخبار والأحداث التي تدعمه، لدرجة أصبح معها الإحساس واقعاً مفزعاً يسقط الكثيرون ضحايا له بشكل يومي. فمثلاً في شهر فبراير الماضي، قدر مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني أن عدد حالات العدوى بنوع من البكتيريا مقاوم للعديد من المضادات الحيوية (methicillin-resistant Staphylococcus aureus) أو اختصاراً (MRSA)، قد تضاعف من 210 حالات عام 1993، إلى 5309 حالات بحلول عام 2002. بينما تضاعفت الوفيات الناتجة عن هذا الميكروب "السوبر"بمقدار خمسة عشر ضعفاً من 51 حالة إلى 800 حالة خلال الفترة الزمنية نفسها. بينما في الولايات المتحدة نشر مركز مكافحة الأمراض تقريراً مفاده أن ما يقرب من 13 ألف مريض في المستشفيات الأميركية قد لقوا حتفهم في عام 1992، نتيجة إصابتهم بعدوى ببكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، ولم يستطع الأطباء إنقاذهم في واحدة من أكثر دول العالم تقدماً في العلوم الطبية والخدمات الصحية.
وتكمن المشكلة في أن الميكروبات وخصوصاً تلك التي تعيش بين غرف المرضى وعنابر المستشفيات، أصبحت قادرة على تحمل الهجوم عليها بجميع أنواع المضادات الحيوية المعروفة حالياً. ولا يقتصر هذا الوضع المرعب على المستشفيات فقط، بل أصبحت أيضاً منازل رعاية المسنين وأماكن علاج الأمراض المزمنة وغيرها، مناطق توليد خاصة يتم فيها إنتاج سلالة خارقة من الجراثيم لم يشهد هذا الكوكب مثلها من قبل، وحتى الذي يمكن علاجه من هذه الأنواع من الجراثيم، بما هو متوفر حالياً من مضادات حيوية، تضاعفت تكلفة علاجه عدة مرات. ففي