في هذا البحث التاريخي عن جذور الصحافة وثورة الاتصالات الحديثة، يبين المؤلف بول ستار، كيف لعبت السياسة دورا كبيرا في نشأة عالم الصحافة، منذ انطلاقة أولى الصحف والنظم البريدية، في أوروبا الحديثة وأميركا، وصولا إلى عصر الإعلام الجماهيري، فثورة الاتصالات، الصور المتحركة والأفلام، ومحطات التلفزة والإذاعة في القرن العشرين. أما الوجه أو الأصل السياسي لهذه المسيرة الإعلامية الطويلة، فيتمثل في صعوبة وحدة الخيارات التي ظلت تتخذ دائما إزاء قضايا شائكة وحساسة بحكم طبيعتها، مثل حرية التعبير، ملكية الأجهزة والمؤسسات الإعلامية، هيكلية الشبكات الإعلامية، السرية والخصوصية، وحقوق الملكية الفكرية، وغيرها من قضايا أعطت الإعلام وجها سياسيا، بقدر ما له من بعد تكنولوجي، باعتباره اكتشافا حديثا من اكتشافات القرن العشرين.
بين الأفكار الرئيسية التي ناقشها المؤلف، أن الخلاف بين الصحافتين الأميركية والأوروبية، يعود إلى النهج الذي اختطته الثورة الأميركية لمسار العمل الصحفي فيها. توضيحا لهذه الفكرة، يعود بنا الكاتب إلى بدايات القرن التاسع عشر. وقتها لم تكن أميركا قوة عظمى بين قوى ذلك العصر، كما لم تكن مركزا يذكر، لحركة علمية ذات تأثير على تقدم العلوم والاكتشافات العلمية. لكنها ومع ذلك، كانت تعد طليعة في مجال الخدمات البريدية والصحف والصحافة الشعبية. وسرعان ما عززت موقعها القيادي الرائد في هذه المجالات بإدخالها وتطويرها لخدمات التلغراف، وشبكات الاتصالات الهاتفية. وفي وقت متأخر من القرن نفسه، توغلت أميركا عميقا، في مجالات الإعلام بمختلف أشكاله ووسائله، تماما كما توغلت في عالم الترفيه والتسلية على اتساعه. ومن رأي المؤلف أن الصعود الذي حققته الولايات المتحدة في عالم الإعلام، كان بمثابة ملحمة للصعود الأميركي، بقدر ما كان انحدارا أميركيا نحو المزالق.
فقد أثبت الهيكل الإعلامي الذي تم إرساؤه هناك، أنه مصدر للنمو الاقتصادي، والتأثير الثقافي، علاوة على ما جلبه للولايات المتحدة من مكاسب عسكرية أيضا. هذا هو الوجه الإيجابي لما يمكن وصفه بالصعود نحو القمة. أما الوجه السلبي الأقرب للانحدار نحو الهاوية والمزالق، فيتمثل في أن المؤسسات الإعلامية، تحولت إلى معاقل للقوة والسيطرة بحد ذاتها. النتيجة الطبيعية لهذا الاستقواء الإعلامي، هو تناقض صورة وناتج المؤسسة الإعلامية الحديثة، مع صورتها التقليدية الكلاسيكية، وتنافيها مع التصور الكلاسيكي لما يجب أن يكون عليه دور الصحافة والإعلام في ظل المجتمع الديمقراطي. من هنا فقد كان من رأي بعض الذين اطلعوا على الكتاب، إنه لا يكتفي بتقديم تاريخ الإعلام الأميركي في قالب جديد ورؤية غير مسبوقة فحسب. بل الأهم من ذلك، أنه يقدم السياسة الأميركية نفسها من منظور جديد ومختلف.
يجدر بالذكر أن المؤلف بول ستار، يعمل أستاذا للعلوم الاجتماعية في جامعة برنستون، فضلا عن كونه محررا مشاركا بمجلة " أميركان بروسبكت". كما حصل كتابه " تحول الطب الأميركي" على جائزة بولتزر العالمية لعام 1984 عن قائمة الكتب العامة غير الأدبية، علاوة على فوزه بجائزة بانكروفت للكتب التاريخية الأميركية. يذكر أيضا أن بدايات تشكل الولايات المتحدة الأميركية، قد ترافق مع بناء الخدمة البريدية وشبكات الاتصال التقليدية. وإن كان الدستور الأميركي قد سعى لتأميم خدمة واحدة في البلاد على المستوى القومي آنذاك، فقد كانت هذه الخدمة هي البريد. أما لائحة الحقوق المدنية، فأرست من جانبها مبدأ تشريعيا مهما، بالغ الأثر، هو ألا يكون للحكومة الفيدرالية أدنى دور في تنظيم العمل الصحفي.
أما في عشية ثورة الإذاعة والمحطات التلفزيونية وشبكة الإنترنت، وغيرها من وسائل اتصال وإعلام حديثة، فقد نشأت كل هذه الوسائط في بيئة ومناخ ثقافيين واقتصاديين وسياسيين، جد مختلفين. من رأي المؤلف-على امتداد الكتاب كله- أن حرص الحكومة الفيدرالية على بناء شبكات التلغراف والإعلام، كان يمثل جزءا من رؤية سياسية متفتحة، لعملية بناء الأمم والشعوب. وقد كانت النتيجة الطبيعية لذلك الحرص، دعم الحكومة لسوق إعلامية واسعة وممتدة بحجم قارة بأسرها. من أهم مزايا هذه السوق، انفتاحها وقابليتها لتنوع وتباين السياسات والمناهج الإعلامية المطبقة، سيما مع التدفقات المستمرة لموجات الإعلام الجديد.
إلا أن المؤلف يبرع في توضيح كيف أن حرص الحكومة المستمر على عدم فرض أي نوع من المركزية على قطاع الإعلام والصحافة، قد أطيح به أخيرا مع دخول خدمة التلغراف إلى حلبة المنافسة. فقد اتسمت هذه الخدمة الأخيرة بالمركزية الصارمة، ومعها تمركز الاقتصاد وكافة وسائل الاتصال الجماهيري المرتبطة بها لاحقا. وقتها كانت قد برزت إلى السطح المشكلات الشائكة والمعقدة الخاصة بالاحتكار في مجال المؤسسات الإعلامية والعمل الصحفي، وما تمثله الاحتكارات من تهديد فعلي ضاغط لحرية التعبير والصحافة والخصوصية الفردية. عندها لم يكن من بد ولا سبيل سوى السير في الاتجاه الآخر، أي اتجا