أصبح الخوف من الموضوعات المثارة هذه الأيام مثل العنف، والإرهاب، وصدام الحضارات. وتجاوز ما عرف في "أفلام الرعب"، والإثارة، والعنف، والخوف الميتافيزيقي من النفس، والقدر، والمصير. أصبح الخوف الآن هو الخوف من الآخر المغاير، الخوف من "المغايرة" و"الآخرية". فبعد أن يثق الإنسان بنفسه، وربما ثقة زائدة تصل إلى حد الغرور وكما هو الحال في أفلام البطولة المطلقة، البطل الذي لا يُقهر، يبدأ في الخوف من الغير، أن يسلبه ثقته بنفسه خاصة لو كانت قد تأسست على السلب والنهب والعدوان. يظل الآخر بالنسبة إليه هو "جسم الجريمة" الذي يذكّره بماضيه خاصة لو كان الضحية لم يحتضر بعد، ومازالت به بقايا من نفس الحياة. يقاوم الموت كي تعود إليه الحياة من جديد.
وهذه هي الحالة الراهنة بين العرب والغرب الأميركي والتي تأخذ عدة صيغ. هناك طرفان يتصارعان أكثر مما يتحاوران مثل: الإسلام والغرب، العرب والغرب، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الحوار العربي الأوروبي. وهناك أحيانا طرف واحد يعبر عن رؤيته للطرف الآخر وإملاءاته عليه مثل: الحوار المتوسطي، الشرق الأوسط الكبير، الإصلاح، الإرهاب، العنف …الخ عند طرف. والعدوان، الاحتلال، الغزو عند طرف آخر. وتزايد العنف والإقصاء المتبادل بين الطرفين عودا إلى عصر الاستقطاب داخل أوروبا منذ الحرب الباردة حتى نهايته وسيادة القطب الواحد أو حتى قبل ذلك منذ القرن التاسع عشر، الصراع بين الدول المستعمِرة والشعوب المستعمَرة والذي انتهى بحركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات وتكوين الدول الوطنية المستقلة الجديدة خاصة في الوطن العربي وأفريقيا.
زادت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين ووصل الأمر إلى العدوان من طرف على طرف، والمقاومة من طرف للطرف الآخر. وكان الأبرياء هم الضحية من الطرفين، الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وتعذيب السجناء ضحايا العدوان، وخطف الرهائن وتهديد حياتهم أو قتلهم، والعدوان على الآمنين من طرف آخر. وانقطع الحوار الهادئ الرصين الخصب في عالم لم يعد يتحمل سفك الدماء.
وربما تكون هذه اللحظة التاريخية لحظة فارقة. فالتاريخ يتحرك، والدوائر تدور طبقا لقانون القيام والانهيار، النهضة والسقوط، والذي يعادل القوانين الكونية مثل الغروب والشروق. فللتاريخ قوانين كما أن للطبيعة قوانينها. ودورات الحضارات وتتابعها مثل دورات الأفلاك. فلربما ما يدور الآن من صراع وصدام مؤشر على حضارة تأفل، وحضارة تبزغ. واللحظة الحاضرة تكشف عن هذا التحول. فالإنسانية الآن على مفترق الطرق.
والسؤال الآن هو: من يخاف من؟ من يصدّر الخوف لمن؟ من يرعب من؟ وهل تصدير الخوف والرعب والإرهاب حقيقة أم وهم، واقع أم خيال؟
إن المغالاة في استعمال القوة من طرف ضد الطرف الآخر إنما يهدف إلى تصدير الخوف منه إليه. فالمغالاة في استعمال القوة في غزو أفغانستان، إطلاق صاروخ بملايين الدولارات على خيمة بعشرة دولارات، واستعمال أحدث أنواع الأسلحة بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل على مقاتلين في الجبال ببنادق من الحرب العالمية الثانية من أجل تصدير الخوف إلى الآخر بعد أن خاف الطرف المعتدي، على نفسه وقوته وصورته وهيبته بعد حوادث 11 سبتمبر 2001. والمغالاة في استعمال القوة في العدوان على العراق بكافة أنواع الأسلحة إنما هو أيضا تصدير للخوف. وما يفعله الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والمخيمات والمقاومة إنما هو تصدير للخوف أيضا بدلا من الرعب الذي يعيشه من العمليات الاستشهادية التي جعلتهم يتوقعون الموت في أية لحظة (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب).
والتهديد المستمر بالعدوان على سوريا وليبيا وإيران والسودان واليمن، كل ذلك من أجل تصدير الخوف حتى لا يجرؤ أحد على تكرار ما حدث في سبتمبر. وتظل صورة أحد الأطراف البطل الذي لا يُقهر، "رامبو" صاحب القوى الخارقة، وراعي البقر الذي يهزم اللصوص والأشرار. وعقدة الخوف هي التي أصبحت تسيطر على المزاج الأميركي والمزاج الصهيوني، الخوف من انتفاضة ضد الهيمنة الأميركية والصهيونية على العالم، الخوف من يقظة الضحية حتى وهو في لحظة الاحتضار.
والحقيقة أن الغرب الأميركي هو الذي يخاف، ويغطي خوفه بتصدير الخوف للآخرين. يخاف خاصة من العرب المسلمين لأنهم مازالوا أحياء حتى ولو بدا عليهم التعثر والتخبط والتفرق والتشيع والإحباط واليأس واللامبالاة. يخاف منهم لأنهم أصحاب تاريخ، ووعي تاريخي يثير فيهم النخوة القديمة، ولحظات الانتصار الأولى، وحلم العودة إلى عصر النبوة والخلافة. والذي يظهر بوضوح لدى الحركات الأصولية خاصة وأن الولايات المتحدة بلا تاريخ إلا التاريخ الأسود، استئصال الشعوب الأصلية في نصف الكرة الغربي، وإحلال كل المطرودين والخارجين على القانون والباحثين عن الذهب من أوروبا عبر الأطلنطي إلى الأراضي الجديدة، وإحلال سكان مهاجرين محل السكان الأصليين. وهو نفس ما فعله الكيان الصهيوني في فلسطين.
ويخشاهم لأن حاضرهم مازال مرتبطا بماضيهم وتراثهم.