في الأسبوع قبل الماضي بدأت محاكمة رجل الأعمال الروسي الشهير وأغنى أغنياء روسيا الجديدة ميخائيل خودوركوفسكي بتهمة التهرب الضريبي والفساد. ويتفق المراقبون على أن هذا الحدث سيكون واحدا من أهم الأحداث السياسية والقضائية في تاريخ روسيا بعد انهيار النظام الشيوعي وأنه سيحدد نمط التحول الرأسمالي في روسيا وأنه سيؤثر على علاقات روسيا الدولية. ماذا عن العرب؟
هذه المحاكمة هي جزء لا يتجزأ من استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاستعادة قوة وحيوية الدولة الروسية بعد أن انهارت كلية تقريبا في ظل رئاسة بوريس يلتسين. وما يثير الاهتمام في التجربة الروسية في ظل بوتين هو أنها حققت – حتى الآن- نجاحا كبيرا ومشهودا من حيث استعادة الحيوية الاقتصادية لروسيا وإن على حساب تكميش التعددية الفعلية ومستوى الأداء الديمقراطي بما في ذلك الاستقلال الفعلي للقضاء كما يشير كثير من المراقبين الغربيين. وكأن بوتين يحاول الاقتراب من النموذج الصيني في التحول الى الرأسمالية دون أن يتبنى تماما نموذجها الواحدي الصارم فى المجال السياسي أو ينقلب تماما على الديمقراطية والتعددية.
هل تحمل لنا هذه التجربة مغزى مؤكدا؟
ليس من الحكمة أو من تقاليد المعرفة العلمية أن نتسرع في استنباط نتائج مؤكدة من نموذج واحد بكامله. فالنتائج الظاهرة من تجارب التحول الى الرأسمالية في أوروبا الشرقية وفي العالم ككل خلال العقد الماضي ليست متجانسة. فلدينا تجارب ناجحة مثل بولندا وتشيكيا والمجر. ولدنيا تجارب فاشلة مثل رومانيا ويوغسلافيا وبلغاريا. ومن المبكر الحكم على التجربة الروسية في ظل بوتين. فالنموذج الذي يرتبط به طبق في حالة رومانيا بدون نجاح يذكر.
وليس من الضروري أن تكون لتجربة بوتين انعكاسات مباشرة أو مهمة بالنسبة للتجارب العربية. فقد بدأت مصر تجربة التحول الى الرأسمالية في ظل الرئيس السادات الذي يشبه يلتسين في نواح كثيرة. وخلال الولاية الأولى للرئيس مبارك حاول أن يطبق ما يسعى بوتين لتطبيقه منذ توليه السلطة. فقد تخلص الرئيس مبارك من عدد لا بأس به من رموز الفساد التي انتعشت في ظل الرئيس السادات. غير أن هذه العملية لم تكتسب قوة دفع كبيرة مع الوقت. بل حدث العكس تماما. فرغم استمرار التصدي لحالات فردية كثيرة عدديا وخاصة في ولاية مبارك الرابعة فإن الفساد وصل الى مستويات من العمق والاتساع لم يبلغها أبدا في تاريخ مصر الحديث.
وبتعبير آخر قد لا يزيد مغزى محاكمة خودوركوفسكي في روسيا في اللحظة الراهنة عن محاكمة عصمت السادات في مصر خلال بداية الثمانينيات. فالمحاكمة الأولى قد تكون حالة من بين حالات معزولة ينتشر الفساد في ظلها ويتعمق مع الوقت بالارتباط بتعزيز التحول الرأسمالي وقيام علاقات وثيقة بين رجال الأعمال الكبار الذين يتمتعون بمكانة احتكارية وجهاز الدولة ورجالاتها. ولأن مصر سبقت روسيا بأكثر من عقدين في الانتقال الى الرأسمالية قد يكون بوسعنا أن نطبق دروس تجربة مصر على روسيا بأكثر مما نستطيع تطبيق دروس تجربة روسيا على مصر. ويصدق ذلك بالنسبة لعدد من الدول العربية التي بدأت نفس عملية الانتقال بعد مصر بقليل مثل الجزائر والمغرب والسودان وبدرجة أقل العراق وسوريا.
ثمة سمات مشتركة كثيرة في تجربة روسيا في ظل بوتين ومصر في ظل الرئيس مبارك. ففي الحالتين تمت تجربة الانتقال في غياب الأطر التشريعية والخبرات العملية التي تضمن "ضبط" عملية الانتقال. فليست هناك تشريعات لمناهضة الاحتكار وحماية المستهلك والحقوق النقابية. وفي الحالتين تقوم الدولة بالإشراف شبه المباشر على نمو وتطور الطبقة الرأسمالية الجديدة. كما توجد سياسات تضمن "الانعاش" الاصطناعي لأفراد يتم اختيارهم من رجال الأعمال أو المرشحين للانتماء لهذه الطبقة. وبينما لعبت خصخصة القطاع الصناعي وقطاع الموارد هذا الدور في روسيا لعبت سياسة تمليك الأراضي وسياسات سعر الصرف ونمط ادارة البورصة هذا الدور في مصر. وللأمانة فقد تمت عمليات الخصخصة في مصر بقدر أكبر من الانضباط والاحتراف بالمقارنة بما حدث في روسيا في ظل يلتسين.
ولكن هناك سمات مختلفة تمام الاختلاف. فالرأسمالية لم يكن قد تم القضاء عليها في مصر على النحو الذي حدث في التجربة السوفييتية. ولم يقع انهيار الدولة المصرية كما حدث للدولة السوفييتية. وتوفرت لمصر ميكانيزمات كثيرة لتخفيف أثر صدمة الانتقال مثل فرص الهجرة الجماهيرية للدول العربية النفطية وللعالم الخارجي عموما. وبوجه عام كانت عملية الانتقال أقل قسوة بما لا يقاس في مصر عنها في روسيا بالنسبة للطبقات الفقيرة وللطبقات الوسطى.
ولذلك فان أي دروس لا تستند على تشريح عملية الانتقال في عدد كبير من التجارب قد لا يكون لها مغزى عام. وقد لا يمكن استمداد أي دلالات عامة من مجمل التجارب العالمية إلا من منظور محدد أو للاجابة على سؤال بعينه.
إن السؤال الذي يتمتع بأكبر قدر من الأهمية في السياق العربي المحاط بتهديدات خارجية وداخلية كبيرة هو، الى أي م