سينتهي احتلال العراق رسمياً في غضون أيام قليلة. وبحسب الشهادات التي قدمتها الصحف والأخبار، كان غزو العراق في السنة الماضية سبباً للانقسامات الخطيرة في كل أوروبا بين الحكومات والشعوب وضمن الحكومات، وما بين الحكومات. وقد شاركنا نحن الاثنين في خوض التجربة بكوننا من بلدين قدمت حكومتاهما تأييداً لغزو العراق في وجه الاحتجاج الشعبي الشديد. وامتد تأثير الانقسامات الأوروبية، حول العمل العسكري لقوات الائتلاف، ليتحول إلى خلاف عام مع- وفي كثير من الحالات إلى عدائية حيال- قوة ودور الولايات المتحدة. وفي بعض الأوساط الأميركية، كان الشعور متبادلاً، فسمعنا كلاماً كثيراً عن جبن الأوروبيين وسذاجتهم.
والتصورات الخاطئة واسعة الانتشار، بقدر ما هي خاطئة: فالولايات المتحدة يمكنها أن تكون- وهي من الناحية التاريخية كانت- قوة كبيرة لصالح الخير في العالم، كما يمكنها بالطبع أن تكون قوة لصالح الخير في أوروبا أيضاً. لكن أوروبا لعبت هي الأخرى دوراً في جعل العالم أكثر رخاءً واستقراراً؛ وقد كانت، وينبغي أن تبقى، مستعدة لحمل حصتها الكاملة من أعباء صنع السلام، وحفظ السلام ومنع وقوع النزاعات في العالم. ولسبب أو لآخر، لم يتسن سماع هذه الآراء- المشتركة على نطاق واسع بين كل الأوروبيين تقريباً- كما لم يتسن فهمها على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي.
ويبرز على وجه الخصوص أن الأوروبيين لم يقللوا من أهمية القتال ضد الإرهاب؛ بل العكس هو الصحيح، حيث نعتقد بأن ذلك يشكل أحد أخطر التحديات لأمن مجتمعاتنا، بل إننا أيضاً خضنا تجربة طويلة وصعبة في التعامل مع هذا التهديد. فالكثير من الأوروبيين كانوا مقتنعين بأن غزو العراق سيزيد في صعوبة التغلب على إرهاب التطرف الإسلامي، هذا على رغم الإجماع على أن صدّام حسين كان ديكتاتوراً مروّعاً.
وسينشغل المؤرخون والمتخصصون في العلوم السياسية في السنوات القادمة بالجدل حول كيفية وسبب وصولنا إلى هذه المرحلة. فالحالة العراقية وانعكاساتها الإقليمية تطرح سؤالاً أكثر إلحاحاً : فماذا الآن؟
تبرز على وجه الخصوص ثلاث مسائل. أولاً، كيف ينبغي لقوة عظمى، أو في الحقيقية "القوة العظمى"، أن تمارس دورها القيادي العالمي، وكيف ينبغي على الأطراف الأخرى أن تستجيب؟ ثانياً، كيف يمكننا تعزيز المساعي التي بدأت جدّياً بعد 11 سبتمبر 2001 للتعامل مع التهديدات الجديدة- أسلحة التدمير الشامل والإرهاب والانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان؟ ثالثاً، وفي سياق الرد على السؤالين الآخرين، كيف يمكننا تجهيز نظام الأمم المتحدة للتعامل مع هذه المسائل على نحو ملائم وفاعل، أي للاتفاق مثلاً حول ما إذا كان ممكناً وجود مسوّغ قانوني للاستخدام الوقائي للقوة، وكذلك حول توقيت تلك الإمكانية؟
ولا يمكننا أن نسمح بتواصل الجدل والخلافات حول هذه المسائل إلى أجل غير مسمى ونحن نتطلع إلى صدور تقرير عن الهيئة الرفيعة التابعة لكوفي عنان هذه السنة بغية المساعدة في حل تلك الخلافات. ففي هذه الأثناء، تحرمنا الأوضاع في العراق من الراحة أثناء انتظار صدور تلك المقترحات. فالإجماع الدولي الواضح شرط ضروري لعملية انتقالية ناجحة في ذلك البلد الذي يعاني الاضطراب. ولذا سيكون لزاماً على أوروبا وأميركا العمل معاً لضمان إنتاج حصيلة مقبولة في العراق. فالضرر سيلحق بنا جميعاً في حال إخفاقنا.
والرهانات كبيرة إلى أقصى حد: فمن الممكن أن يعني الإخفاق تفكك العراق. ومن أوضح التطورات التي يمكن التنبؤ بحدوثها في الأشهر القادمة، هناك محاولة تشويه مصداقية أو قتل القيادات المعتدلة في كل فئة من الفئات العراقية في محاولة لإشعال الحرب الأهلية التي يمكن أن تحطّم هذا البلد الهش إلى أشلاء ليكون لذلك ما له من الانعكاسات الإقليمية الخطيرة. ومن الممكن أن يصبح العراق المنزلق إلى الفوضى أرضاً لتفريخ الإرهاب الدولي، وها نحن نرى الآن إشارات تحذيرية في السعودية والأردن وسوريا. والتكلفة البشرية واضحة وملفتة للانتباه. والمصلحة الذاتية تلزمنا بالنظر في التكلفة الاقتصادية المحتملة التي يفرضها انعدام الاستقرار في بلدان هي أكبر مصدر للنفط في العالم. ومن الناحية السياسية، يمكن للإخفاق أن يوسّع الانقسام بين أوروبا والولايات المتحدة.
وتجنب هذا السيناريو الكابوسي هو بالضبط ما دفع المفوضية الأوروبية إلى العمل منذ البداية لتعزيز الإجماع الأوروبي والدولي حول الطريق المستقبلية في العراق. فمنذ شهر مارس العام الماضي، أي عندما أيّد الزعماء الأوروبيون بالإجماع دوراً مركزياً للأمم المتحدة في المرحلة الانتقالية بعد الحرب، واصلنا العمل نحو إيجاد مظلة متعددة الأطراف لمساعي إعادة إعمار العراق بحيث نتيح للبلدان التي لا تؤيد الغزو أن تدعم العملية الانتقالية. ومن المؤكد أن مشاركة روسيا وتركيا وإيران وغيرها هي مشاركة ليست منفصلة عن هذا العمل، ونحن دعمنا هذه السياسة بموارد مالية ضخمة.
وقدّمنا هذا الشهر مقترحات بخصوص استراتيجية متوسطة الأمد في العراق، آ