نجحت الاختراقات الطبية في النصف الأخير من القرن الماضي، وخصوصاً على صعيد الوقاية من الأمراض المُعدية، وإلى حد ما على صعيد علاج الأمراض غير المعدية، في رفع متوسط أعمار أفراد الجنس البشري بشكل ملحوظ. وهذا التغير الديموغرافي، يقدر له أن يستمر أيضاً خلال النصف الأول من القرن الحالي، بحيث يتوقع أن يتضاعف عدد من تخطوا سن الستين بأكثر من ثلاث مرات، أي من 600 مليون حاليّاً إلى 2000 مليون بحلول عام 2050. وبما أن الزيادة السكانية العالمية خلال العقود القليلة الماضية، وقع الجزء الأكبر منها في الدول النامية ودول العالم الثالث، فإنه يتوقع أيضاً أن تحظى هذه الدول بنصيب الأسد من الزيادة في عدد كبار السن بين أفراد المجتمع، أي 1700 مليون بحلول عام 2050، بدلاً من 400 مليون مسن حاليّاً. وهذا الاتجاه من شأنه أن يفرض تحديات صحية واسعة على غالبية المجتمعات، وخصوصاً في ظل حقيقة أن الحفاظ على صحة جيدة لكبار السن في المجتمع، يعد متطلبا ضروريّاً لاستمرار هؤلاء الأفراد في المساهمة في دعم النشاطات الاقتصادية، ومشاركتهم في الحياة الاجتماعية والأسرية بشكل دائم. ولذا، يعتبر الحفاظ على صحة جيدة مدى الحياة، وتجنب المضاعفات والأمراض التي تنتج عن التقدم في السن، وخصوصاً الأمراض غير المعدية والمزمنة، مثل أمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية، من أهم الشروط الأساسية لتحقيق هذا الهدف. وإن كان ليس من الممكن بلوغ هذه الغاية، من دون الأخذ في الاعتبار خصوصية المشاكل الصحية التي تترافق بتقدم السن، وهو ما يتضح بشكل جلي من النظر عن قرب إلى مخاطر السقوط بين كبار السن، وما ينتج عنها من مضاعفات صحية خطيرة. فالإحصائيات تظهر أن السقوط يحتل المرتبة الثانية -بعد الإصابات الناتجة عن حوادث الطرق- على قائمة أسباب الحوادث والإصابات المؤدية إلى وفيات حول العالم. فبمرور كل عام، يتعرض 32 مليون شخص لحوادث سقوط، تنتج عنها إصابات خطيرة، ويلقى أكثر من 400 ألف شخص منهم حتفهم في النهاية، نتيجة المضاعفات الناتجة عن السقوط، وغالبيتهم في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل. وهذا يجعل السقوط مشكلة صحة عامة واسعة النطاق، ليس فقط على صعيد الوفيات، وإنما أيضاً على صعيد الإعاقات، التي تبلغ أيضاً حد الملايين سنويّاً. ولا تقتصر تبعات حوادث السقوط على الثمن الإنساني فقط، في شكل الوفيات والإعاقات، بل يمتد تأثيرها للجوانب الاقتصادية أيضاً، وإلى درجة قد تؤثر على الدخل القومي برمته، وترهق ميزانيات الرعاية الصحية للكثير من الدول، وهو ما يتضح من حقيقة أن متوسط تكلفة الرعاية الصحية لحادث السقوط الواحد، يتراوح ما بين ألف دولار في النمسا و 3600 دولار في فنلندا. وبالنظر إلى أن حوادث السقوط حول العالم، تزيد عن 32 مليون حادث سنويّاً كما ذكرنا سابقاً، يمكننا أن نتخيل التكلفة الإجمالية لعلاج المضاعفات الناتجة عن السقوط، وما يترتب عنها من كسور وإعاقات. وعلى رغم أن أي شخص معرض للسقوط، إلا أن السن، والجنس، والحالة الصحية للشخص، تعتبر من المحددات الرئيسية للتبعات الناتجة عن السقوط. فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة يتعرض ما بين 20 في المئة إلى 30 في المئة من كبار السن لإصابات متوسطة أو خطيرة بعد السقوط، مثل كسور عظام ومفصل الفخذ، وكسور وإصابات الرأس الخطيرة. وعلى ما يبدو أن درجة خطورة المضاعفات التي تنتج عن السقوط في هذه الفئة العمرية ترتبط إلى حد كبير بالتغيرات الجسدية، والحسية، والإدراكية التي ترتبط بالتقدم في السن. وإن كان من الخطأ الاعتقاد بأن تبعات السقوط، من وفيات وإصابات وإعاقات، تقتصر فقط على المسنين، حيث يشكل الأطفال أيضاً فئة عمرية، تتحمل هي الأخرى جزءاً لا يستهان به من الثمن الإنساني والاقتصادي الناتج عن السقوط. فبخلاف من تخطوا سن الخامسة والستين، نجد أن جزءاً كبيراً من الوفيات الناتجة عن السقوط، يحدث بين الأطفال دون سن الخامسة عشرة، وهي الفئة العمرية التي تتحمل أيضاً 40 في المئة من الإعاقات الناتجة عن السقوط. وعلى الصعيد الاقتصادي أيضاً أظهرت الدراسات التي أجريت في كندا، أن تطبيق استراتيجيات واقية، وتوفير بيئة آمنة للأطفال، يمكن أن يوفرا 120 مليون دولار سنويّاً من ميزانية الرعاية الصحية الكندية، تنفق حاليّاً على المضاعفات الناتجة عن سقوط الأطفال. وهذا الوضع المؤسف، يمكن عكس اتجاهه، أو على الأقل الحد من تأثيراته، من خلال تطبيق استراتيجيات وقائية، شاملة ومتعددة الجوانب، تضع في أولوياتها الأبحاث والمبادرات الصحية التي تهدف إلى تقييم التبعات الإنسانية والاقتصادية لحوادث السقوط على جميع الفئات العمرية، وتساعد على تحديد عوامل الخطر المختلفة، وتسعى إلى توظيف الإجراءات التي تمنع حدوثها. فمن خلال السياسات والتشريعات، والتطبيقات الهندسية التي تضع في اعتبارها مخاطر حوادث السقوط، مع تدريب أفراد المجتمع الطبي، وأفراد المجتمع كافة، على المساهمة الفعالة في تحديد، وتحييد، عوامل الخطر تلك، يمكن أن نأمل في إنقاذ حياة مئات الألوف ممن يقضون نحبهم من جراء حوادث السقوط، وأن نقي الملايين الآخرين من الإصابات والإعاقات الدائمة.