التعليم والتجربة الفنلندية
تتربع فنلندا الدولة الصغيرة والحديثة على قمة سلم التعليم في العالم فهي على رأس قائمة الدول الأكثر نجاحاً في التعليم، وهذا النجاح عمره ثلاثة عقود فقط، ولمن يبحث عن السر فهو بسيط ويتلخص في أنها عندما فكرت في إصلاح نظامها التعليمي بدأت بالمعلم ونجحت في ذلك، ولذا فقد نجحت في العملية التعليمية بأسرها.
في الإمارات نعاني من مشكلات كثيرة في التعليم كغيرنا من دول العالم المتقدمة وغير المتقدمة.. وعلى رغم الاهتمام الرسمي بالتعليم ورصد الميزانيات الكبيرة، إلا أن المخرجات ليست مرْضية، وليست مقنعة حتى الآن.
ضيف مجلس سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي الرمضاني لويس غيرستنير رئيس معهد "برود" التابع لمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد تكلم عن هموم التعليم وأشار إلى مشكلاته في الولايات المتحدة وحدد ثلاثة أسباب رئيسية، وكان السبب الثاني هو فشل أميركا في تقوية دور الكادر التعليمي والاهتمام به.. وهذا هو نفس السبب الذي جعل فنلندا هي الدولة الأولى على سلم الدول الأكثر نجاحاً في تجاربها التعليمية، فقد أعطت الاهتمام الرئيسي للمعلم واعتبرته أهم مكونات العملية التعليمية فنجحت وتفوقت.
في الإمارات ندرك أيضاً أن هذه واحدة من مشكلات التعليم، بل هي المشكلة الرئيسية عندنا، فنقص الكفاءات التعليمية والمعلمين واضح جدّاً، وهذا ما دفع وزارة التربية والتعليم ومجلس أبوظبي للتعليم للاهتمام بهذا الجانب، وكانت النتيجة هي إنشاء كلية الإمارات للتطوير التربوي التي تسعى إلى تأهيل معلمين أكفاء ومتميزين في كل مدارس الدولة.. وتأهيل وتطوير المعلم قد لا تكون عملية صعبة جدّاً، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن جذب خريجي الثانوية للدراسة في كليات التربية وكيف يمكن إقناع خريجي الجامعات بالعمل في قطاع التعليم؟
إحدى الأفكار المطروحة حاليّاً هي تقديم حوافز مالية مغرية لجذب الفتيات والشباب ليصبحوا معلمين... والسؤال: هل تكفي الحوافز المالية لخلق معلمين متميزين؟ هل يكفي أن نغري الشباب والفتيات بالمال والراتب العالي لكي يعملوا في مهنة التدريس ويعلموا أبناءنا ويحملوا مشاق مهنة التدريس؟ لا يبدو هذا كافيّاً.. فالمال وسيلة تشجع وتعين المعلم على البقاء في المهنة.. ولكن ما هو الشيء الذي يجذبه إلى التفكير في هذه المهنة؟ وما الذي يجعل التدريس حلم الطالب الذي يريد تحقيقه عندما يكبر؟ فمن يأتي من أجل المال إلى غرفة التدريس سيتركها لاحقاً من أجل المال أيضاً إلى أية وظيفة أخرى... ولذا فإنني كلما أمرّ على إعلانات كلية الإمارات للتطوير التربوي المنتشرة في كل مكان تحت شعار "معلم أفضل لمستقبل أفضل" -وهو بلا شك شعار جميل وصحيح مئة في المئة- أتساءل كيف يمكن تطبيق ذلك؟
لقد خسرت مهنة التعليم على مدى العقدين الماضيين الكثير من مكانتها وهيبتها.. وأصبح المعلم في وضع لا يحسد عليه، لذا لاحظنا التسرب الجماعي للمعلمين من المدارس وانتقالهم إلى العمل في قطاعات مختلفة وذلك لسببين رئيسيين، الأول مادي لأن راتب موظف لا يبذل ربع الجهد الذي يبذله المعلم هو ضعف راتب هذا المعلم، والسبب الآخر والأهم أنه لم يبقَ أي احترام للمعلم سواء داخل المدرسة أو خارجها، فقد أصبح يمكن لأي ولي أمر أن يفعل بالمعلم ما يشاء، وإن كان المعلم على صواب وولي الأمر وابنه على خطأ! وهذا ما لا يساعد المعلم على إتمام رسالته المقدسة.
إذا أردنا أن نعرف إن كنا نسير على الطريق الصحيح في عملية إصلاح التعليم دون أن نجلب مزيداً من الخبراء ودون أن نصرف مليارات إضافية فلننظر إلى التجربة الفنلندية ونقارن أنفسنا بها فهي المرآة الصادقة التي تساعدنا على معرفة الصواب.. ففلسفة التعليم هناك تقوم على إتاحة الفرصة لجميع الأطفال للتعلم.. وجعل التعليم غاية وليست وسيلة لتلبية متطلبات سوق العمل.. فهل هذا يتطابق مع ما نؤمن به؟
في الإمارات وفي أغلب الدول العربية يلتحق الأطفال بالمدارس في سن الخمس سنوات ويحضرون يوماً كاملاً. أما في فنلندا، فيبدأ الطلاب الالتحاق بالمدرسة في سن السبع سنوات ليحضروا نصف يوم فقط وتستمر هذه المرحلة الدراسية من هذا العمر حتى عمر 16 عاماً في ما يسمى بمرحلة التعليم الأساسي.. أما في السنوات من 7 إلى 12 عاماً فيدرِّسُ الطلابَ مدرسٌ واحدٌ لكل صف كل الموضوعات.. أما عندنا فيدرس الطلاب عدد من المدرسين في اليوم الواحد يختلفون عن بعضهم بعضاً في كل شيء ابتداء من الخلفية الثقافية والمستوى التعليمي وانتهاء بطريقة تعاملهم مع الطلاب واستيعابهم.
في فنلندا سنوات التعليم الإلزامي العام تعليم مجاني، تكون الوجبات والكتب والأدوات القرطاسية مجانية.. فهل بقي شيء عندنا مجاني؟.. في فنلندا أيضاً يختار المدرسون ما يريدون تعليمه للطلاب وكيف يعلمونهم.. فهل نستطيع أن نقارن هذا الوضع بواقع المدرسين عندنا؟
في فنلندا ليست هناك اختبارات عامة للطلاب خلال التسع السنوات الأولى. ولكن يتم تقييم الأداء بناء على اختيار 10 في المئة من كل شريحة عمرية وتجرى الاختبارات وتحتفظ المدارس بالنتائج بكل سرية.. بعد السنة الخامسة، لا يسمح قانونيّاً بوضع درجات للطلاب ولا يمسح بالمقارنة بينهم.. كما لا يسمح بأن تقارن المدارس مع بعضها بعضاً... فما الذي يحدث عندنا؟!
في فنلندا يتلقى الطلاب ما معدله 5500 ساعة دراسية سنويّاً مقارنة بمدارس دول متقدمة في التعليم تصل إلى 8000 ساعة سنويّاً كما هو الحال في كوريا الجنوبية مثلا. والطلاب لا يقضون كثيراً من الوقت في الواجبات المدرسية؛ ففي كوريا، هناك 30 ساعة تدريس أسبوعيّاً و 10 ساعات في الأشغال والواجبات ما بعد المدرسة مقارنة بفنلندا حيث لا يتجاوز عدد الساعات في التدريس 25 ساعة أسبوعيّاً ويعمل الطلاب ما مقداره 5 ساعات على الواجبات والأشغال المدرسية.
وهناك تفاصيل أكثر في تجربة فنلندا في التعليم لا تتسع لها مساحة هذه المقالة وأتمنى أن يطلع عليها المختصون، فهذه التجربة ساعدت فنلندا على التحول من بلد ذي اقتصاد عادي يعتمد على الزراعة إلى بلد ذي اقتصاد معرفي متقدم يتربع على قمة التعليم.
أخيراً لابد من الإشارة إلى أحد أسباب تدهور التعليم التي لا ينبغي إغفالها وهو "التعليم الخاص" الذي تحول إلى "تعليم تجاري" في أغلب المدارس -إلا قليلاً- فهذا النوع من التعليم من الواضح أن أعداد مدارسه تزداد سنويّاً ولكنه يزداد سوءاً وينحدر مستواه بشكل واضح.. ولذا فإن التركيز على التعليم الحكومي المنظم والمنضبط أمر مهم.. كما أن الاستمرار في تقديم تعليم إلزامي ومجاني للجميع في المرحلة المدرسية أمر لا يفترض التراجع عنه.