"الجنود القدامى لا يموتون، إنهم يتوارون وحسب". قول قديم. والقدامى مصطلح يعني الخبرة والمراس في الحروب، ولا يعني القدماء الذين عاشوا في الزمن القديم. تذكرت هذا القول الأسبوع الماضي حيث كنت في أبوظبي في زيارة رمضانية سنوية تصادفت مع الذكرى السادسة لرحيل القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله. ست سنوات مضت على رحيل هذه الشخصية العظيمة، لكنه كان موجوداً في كل أرجاء الدولة حيث تذهب. في ضيافة الصديق الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التعليم العالي تلتقي كافة أنواع الناس: من ساسة وكتاب وإعلاميين وفنانين وأكاديميين وأناس بسطاء عاديين بنفس بساطة الشيخ نهيان نفسه، وهي بساطة الكبار بسمو سلوكهم وتعاملهم التلقائي مع الجميع بسواسية. من مجلس معالي الشيخ نهيان نرافقه إلى ما أصبح معْلماً رمضانيّاً في الإمارات وهي المجالس الرمضانية لسمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي. صاحبنا في الذهاب للمجلس وزير الصحة الإماراتي الدكتور حنيف حسن والإعلامي سليمان الهتلان، ووجدنا وزراء ووجهاء وقادة ومفكرين وشخصيات من مختلف دول العالم. تلتفت في كل اتجاه في المجلس فترى الراحل الكبير حاضراً دونما الجسد، متواجداً بروحه ومبادئه وقيمه. المكان معد بترتيب يليق بالفكرة، والتنظيم حسن يستحق المناسبة، تفاجئك برامج المحاضرات: تلك محاضرة دينية تستذكر مآثر الشهر الكريم، وذاك محاضر أكاديمي يلقي من جعبته سهاماً من المعرفة للعقل، وهذا يطرح نظرية جديدة في العلم والتكنولوجيا والعولمة. كارلوس غصن هو محاضر الليلة: شخصية موسوعية متنقلة، ولد في البرازيل من والد فرنسي وأم لبنانية، ودرس في فرنسا وعمل في أميركا واليابان، يجيد أربع لغات هي الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والعربية. برع في إنقاذ شركات في عالم السيارات وصناعتها من الإفلاس، ويرأس حاليّاً شركتي رينو ونيسان الفرنسية واليابانية على التوالي. يصل صاحب المجلس سمو الشيخ محمد بن زايد التاسعة والنصف تماماً. موعد الوصول دقيق جدّاً ولا يرافق الحاضر الكبير سوى هيبة حضوره، وبكل هدوء وتواضع وترحاب يسلم على الحضور جميعاً، أهز رأسي: "الجنود القدامى لا يموتون". تحدث المحاضر عن تجربة صناعة السيارات، وقضى جزءاً كبيراً من المحاضرة يشرح مستقبل السيارات الكهربائية صديقة البيئة التي ستكون انبعاثاتها الحرارية في سمائنا صفراً. سبعمائة وخمسون مليون سيارة تجوب الكرة الأرضية الآن. التوقعات أن يصل العدد إلى بليون سيارة خلال ثلاثين عاماً. المحاضر تحدث عن سهولة الحصول على الطاقة الكهربائية لسيارة المستقبل، وبنفس مواصفات وسرعة السيارات الحديثة التي تسير على البنزين، بل وبمواصفات أفضل وأرخص من الموجود حاليّاً. المحاضرة ممتعة وشيقة، كنت أظنها للمختصين فقط، ولكنها كانت معلومات شمولية شدت الجميع وجذبت كثيراً من الأسئلة من الحضور لم يوقفها سوى انتهاء الوقت. في طريق العودة إلى مطار أبوظبي، تمر السيارة بمسجد الشيخ زايد، ترتسم ابتسامة احترام على شفتي، هنا يرقد جثمان الراحل الكبير، لكنه كان موجوداً في كل مكان في أبوظبي وفي الإمارات كلها. لقد رأيته بنفسي في أماكن عديدة: في النظام ونظافة الشوارع والأمن والهدوء والضيافة التلقائية الإماراتية، وكان حضوره طاغيّاً في الاعتداد بالنفس والثقة بالمستقبل. طريق المطار تحفه الأشجار كما خلوج تحف بالعطف وليدها. ترى! هل تفتقد هذه الأشجار الراحل الكبير؟ تتساءل: يأتيك الجواب، لا فالشجرة خضراء يانعة تتلقى الضوء وتسقى بالماء وتتنفس الهواء للعيش والبقاء. إذن هي تؤمن أنه لا زال حاضراً باخضرارها وبقائها! الشجرة لا تخطئ أبداً... رحم الله الشيخ زايد الذي توارى، لكنه لم يمت.