بين السخرية والنفاق يمتد الشريط الحدودي الفاصل بين أميركا والمكسيك على مسافة ألفي ميل. وعلى امتداد هذا الخط تنهمك الولايات المتحدة في بناء سور طويل عبر الصحراء، لفصل مصدِّري المخدرات في المكسيك عن جمهور مستهلكيهم الأميركيين، ولإقامة حاجز بين فلاحي أميركا اللاتينية الفقراء، ومستخدميهم الأميركيين الذين يدفعون لهم أجوراً زهيدة لا تسمن ولا تغني من جوع. ويمتد هذا السور الذي يغطي أقل من مسافة الخط الحدودي الفاصل بين البلدين عبر المنخفضات والوديان والصحراء. ولكنه يمثل عقبة كبيرة أمام التنقل بين الدولتين. فهو عقبة كؤود في نظر المكسيكيين، بينما يمثل بالنسبة للأميركيين صمام أمان لمنع تدفق المخدرات والجريمة المنظمة والمهاجرين غير الشرعيين إلى أراضيهم. وفي ظل الركود الاقتصادي الذي تواجهه أميركا الآن، فإن أعلى عبارات النحيب التي طالما ترددت هذه الأيام هي تلك التي تتحدث عن تسرب "الحلم الأميركي" من بين أصابع الأميركيين. ذلك أن أفصح تعريف لـ"الحلم الأميركي" هو قدرة الأجيال التالية على تحقيق دخل أعلى من الأجيال السابقة. وبالقدر نفسه، أصبح المهاجر المكسيكي مجرماً بالضرورة في نظر المتعصبين من الأميركيين، الذين يزعمون لأنفسهم نزعة وطنية متشددة ومدمرة للوطن نفسه في نهاية المطاف. وفيما أعلم وتؤكده دروس التاريخ وشواهده، فغالباً ما تمتد الإمبراطوريات العظيمة المزدهرة إلى خارج حدودها، بينما تميل الإمبراطوريات المضمحلة الآفلة إلى بناء الأسوار وعزل نفسها عن العالم الخارجي. وفي صورته الحالية، لا يمثل امتداد السور الأميركي سوى جزء ضئيل جدّاً من سور الصين العظيم الذي تحول من سور للعزلة والدفاع عن الذات يوماً ما إلى مغناطيس جاذب للسياح من مختلف أنحاء العالم في عصرنا الحالي. ولكن ما أكبر الفرق بين واشنطن وبكين في عالم اليوم؟ ففي حين يموت الجنود الأميركيون بالعشرات والمئات في أفغانستان، تسافر الوفود الصينية الاستثمارية إلى كابول للتفاوض بشأن الحقوق التعدينية المشتركة! وربما يكون الشبيه الأقرب للسور الأميركي هو ذلك الجدار العازل الذي تعمل على بنائه تل أبيب في الضفة الغربية. وعلى حد قول المسؤولين الإسرائيليين فقد شيد السور خصيصاً لردع "الإرهابيين" ووقف عملياتهم التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين. وعقب هجمات 11 سبتمبر سمعت أيضاً من يبدي تخوفاً في واشنطن من أن يتنكر أحد أو مجموعة من الإرهابيين في شكل مكسيكي أو لاتيني مهاجر، فيتسلل بذلك إلى عمق الأراضي الأميركية. وكان السؤال المقلق الذي أثاره "الكنيست" الإسرائيلي في وقت لاحق: من هو اليهودي؟ وكما نعلم فإن للسؤال هنا علاقة مباشرة بالدين والمواطَنَة، بيد أنه ينطوي على مجموعة من الاعتبارات العملية الأخرى. فمنها سعي إسرائيل للتخلص من عبء مسؤوليتها عما يزيد على 400 طفل من أطفال العمال الأجانب غير الشرعيين، الذين ساهم بعضهم في بناء الجدار العازل. وعليه يصبح تعريف اليهودي بأنه كل من ولد في إسرائيل ويتحدث اللغة العبرية باعتبارها لغة أصلية لأمه، ولا وطن آخر له سوى إسرائيل. وفي الكونجرس الأميركي طرح سؤال مشابه مؤخراً: من هو الأميركي؟ وقد اقترح "الجمهوريون" تطبيق التعديل الرابع عشر من الدستور، الذي ينص على منح حق المواطنة لكل من يولد داخل الولايات المتحدة الأميركية. ولست أدري ما إذا كانت هذه النزعة الوطنية المتطرفة التي يعبر عنها "المحافظون" فيما يتعلق بسياسات الهجرة، هي مجرد لعبة انتخابية أم غير ذلك. وأيّاً يكن الأمر فإن من المرجح أن يكون هذا الجدار الحدودي الذي بني لحماية "أرض الحرية" هو النقطة التي تنتهي عندها حرية أميركا، ويبدأ فيها انهيارها الداخلي. ريتشارد رودريجز محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"