مأزق "الاتحاد من أجل المتوسط"
حملت تصريحات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي أعقب محادثاته مع الرئيس المصري حسني مبارك نوعاً من الاستياء بسب إبعاد فرنسا والاتحاد الأوروبي من رعاية إطلاق المفاوضات المباشرة الفلسطينية- الإسرائيلية وتهميش دور الرباعية الدولية.
والصحيح أن الرئيس الفرنسي يعول كثيراً على نجاح المفاوضات لإخراج مشروعه "الاتحاد من أجل المتوسط" من غيابات الجب الذي وقع فيه منذ العدوان الإسرائيلي على غزة في نهاية 2008، وعمر المولود الجديد لا يتعدى سنتين.
كان مقرراً أن تعقد القمة الثانية لرؤساء الدول والحكومات، أعضاء الاتحاد من أجل المتوسط، في برشلونة في السابع من يونيو الماضي وأجلت إلى نوفمبر من هذه السنة، وفي الرسالة التي كان قد وجهها في افتتاح منتدى فاس حول الاتحاد من أجل المتوسط الذي كنتُ قد نظمتُه بفاس أياماً بعد تأجيل القمة، أكد الرئيس الفرنسي أن شروط نجاح القمة لم تكتمل بسبب تعثر عملية السلام في الشرق الأوسط، ومن ثم ارتأت الرئاستان الفرنسية- المصرية تأجيل القمة، لأن فشلها كان سيوجه ضربة قاتلة للاتحاد.
ولهذا السبب نتفهم اغتنام الرئيس الفرنسي مناسبة انطلاق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية -على رغم التهميش الأميركي للدور الفرنسي والأوروبي- ليعرج الرئيس المصري على باريس في طريقه إلى واشنطن وليؤكد الجانبان دور الاتحاد من أجل المتوسط كرافعة فرنسية- مصرية- متوسطية "لتشجيع المفاوضات وتفحص الوسائل الملموسة لدعم جهود السلام وحل الدولتين".
ويضم الاتحاد من أجل المتوسط الذي أسس بمبادرة من فرنسا 43 بلداً، أي كل دول الاتحاد الأوروبي، والدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط (بما في ذلك السلطة الفلسطينية وإسرائيل)، بالإضافة إلى الأردن وموريتانيا، ويهدف المشروع إلى تفعيل مبادرة مسلسل برشلونة الذي انطلق سنة 1995.
وقد صفقنا منذ البداية لهذا المشروع بصفاء بصيرة واقتناع عميق، إيماناً منا بأن مستقبل الشعوب مبني على الاتحادات القوية لتحقيق التنمية والاستقرار والأمن بين ضفتي المتوسط، ولأنه خلافاً لمسلسل برشلونة، فإن هذا المشروع الجديد مبني على التوازن والتكافؤ في التمثيلية وأخذ القرار بين الشمال والجنوب، إذ قررت القمة المؤسِّسة للاتحاد إنشاء رئاسة مشتركة دورية للاتحاد عُهدت للرئيسين الفرنسي والمصري، علماً بأن مدة الدورة سنتان تنتقل الرئاسة بعدها إلى قادة دول أخرى؛ ومبدأ الرئاسة المشتركة بين ممثل الاتحاد الأوروبي ومسؤول الدول المتوسطية غير الأوروبية يطبق على القمم وعلى كل الاجتماعات الوزارية ولقاءات كبار الموظفين، وتقرر أن تعقد قمة الاتحاد كل سنتين على أن يحتضنها بالتناوب بلد من الاتحاد الأوروبي ودولة متوسطية من خارجه، فيما سيكون اجتماع وزراء خارجية الاتحاد سنويّاً.
وقد نافحنا عن هذا المولود الجديد في العلاقات الأورومتوسطية لأنه يجابه ما دأبت عليه دول الشمال في تعاملها مع الجنوب، فهي التي كانت تقترح وتفرض وتوجه القيادة المؤسساتية والمالية، وهي التي كانت تمتلك المقاربة الأمنية للحدود، وهي التي كانت تحمي نفسها وراء جدار السياسة الزراعية المشتركة، ولا تُدخل في الإطار التشاركي إلا اللاعبين الكبار الذين يجيدون الخطابات الرنانة دون أن يكون لهم قدمٌ في الشراكة بين الضفتين.
وعلاوة على ذلك، نادى هذا المشروع بتحقيق ستة مشاريع وأهداف على المدى القريب لتحقيق التنمية المستدامة بين الضفتين: مكافحة تلوث البحر المتوسط، وإحداث طرق سريعة بحرية بالإضافة إلى دعم ما لم ينجز بعد من الطرق السريعة المغاربية، والتعاون في مجال الحماية المدنية، وإحداث خطة المتوسط للطاقة الشمسية، وتطوير البحث والتعليم العالي (بما في ذلك إنشاء جامعة أورومتوسطية في سلوفينيا وجامعة أورومتوسطية بفاس)، وإقامة هيئة لدعم الشركات عبر المساعدة الفنية والآليات الكفيلة لإنجاحها.
وبالطبع فإن الأهداف التي سطرت للمولود الجديد هي أولية، والمؤسسون وضعوها في إطار تشاركي متعدد الجوانب بين الضفتين على المدى المتوسط والبعيد خلافاً لما شهده"مسلسل برشلونة" و"عملية الجوار".
وكان الرئيس الفرنسي حاول في إطار هذا المولود الجديد مَأْسَسَة "اتحاد مشروعات" وعدم إقحام ويلات الجوانب السياسية المستعصية، وبخاصة المشكل الإسرائيلي- الفلسطيني والإسرائيلي- العربي، الذي كان حضوره الدائم من بين أسباب فشل مسلسل برشلونة، ولكن تواجد الدول العربية، العضوة في الاتحاد من أجل المتوسط، في موقع حساس بمعطياته الجغرافية والاقتصادية والتاريخية، والجيرة المباشرة مع الكيان الإسرائيلي، جعلا مشروع الاتحاد من أجل المتوسط يتأثر بنفس العوامل التي تأثر بها مسلسل برشلونة، فأسابيع قلائل بعد ولادة الاتحاد من أجل المتوسط اندلعت أحداث غزة التي راح ضحيتها المئات من الفلسطينيين، فتوقفت مباشرة ولأشهر معدودات هياكل الاتحاد من أجل المتوسط وهي في طور نموها الأولى، قبل أن تتسرب إليها عقلانية التبصر بتعيين المرشح الأردني، أحمد المساعدة، لتولي منصب السكرتير العام للاتحاد من أجل المتوسط، وتدشين مقر الأمانة العامة في مدينة برشلونة بإسبانيا لتكون مسؤولة عن دعم وتحديد المشروعات ذات الأهمية الإقليمية والانتقالية في شتى القطاعات.
إن رؤية مستقبل الاتحاد من أجل المتوسط أمر صعب جدّاً كما فهمه في النهاية الرئيس الفرنسي نفسه؛ وفصل العوامل السياسية عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مستحيل في الشراكة الأورومتوسطية. صحيح كما أكد الأمين العام لجامعة الدول العربية أن الاتحاد لا يعالج عملية السلام وإنما يناقشها، وصحيح أيضاً أنه منذ إنشاء الاتحاد، ومنذ عملية برشلونة، كانت إسرائيل ضمن الدول المطلة على البحر المتوسط وتمت تسوية هذه الإشكالية بقبول عضوية فلسطين كاملة، وكذا الجامعة العربية، لكن هياكل أي منظمة أو مؤسسة متوسطية لا يمكنها أن تتمتع بالوحدة والقوة والمناعة بما يسمح لها بتجاوز تداعيات المشكلة الفلسطينية- الإسرائيلية ما دام هذا المشكل قائماً، ويقيني أن إخراج الاتحاد من أجل المتوسط من المستنقع الذي وقع فيه يبقى رهيناً بمستقبل المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.