صدر هذا العام كتابٌ بالغ الأهمية للأستاذة عايدة العزب موسى عنوانه:"العبودية في إفريقيا والتاريخ المفقود". والذين يهتمون بالعلاقات مع الغرب، وبتاريخ هذه العلاقات في بلادنا وأراضينا، والذين يقرؤون ما تكتبه الصحافة الغربية، ويشاهدون ويسمعون ما يبثه الإعلام الغربي عن الإنسانية وحقوقها، وعن التمدن الذي صدرته أوروبا إلى العالم، وعن الحضارة المستندة إلى احترام القانون دون نظر إلى الذين يطبق عليهم المعنيون بهذا كله عليهم أن يقرؤوا كتاب العبودية في إفريقيا ليقفوا على حقائق هذه المدنية، ومسلك تلك الحضارة الذي لم أجد وصفاً مهذباً له أكثر من وصفه الذي جعلته عنواناً لهذا المقال.
الجريمة الكبرى التي كشفتها لنا عايدة العزب هي أن أسوأ ما فعله "الاستعمار بإفريقيا هو طمسه لتاريخها وحضاراتها القديمة؛ ليصمها بأنها قارة متخلفة... وبشكل منظم ومدروس أجمع المستعمرون على اختلاف جنسياتهم على اتهام إفريقيا بأنها قارة بلا حضارة، مجرد جماعات من الهمج المتوحشين يأكلون لحوم البشر". وتعلق الكاتبة على هذا الاتهام الأخير بسؤال عمن كان الأفارقة يأكلون لحومهم؟ أكانوا يأكلون لحوم بعضهم بعضاً؟ أم كانوا يأكلون لحوم البيض الغزاة؟!
والواقع الذي يكشفه الكتاب، بل الذي حرصت مؤلفته أن تثبته في أول صفحة من مقدمته، أن إفريقيا استعمرت بالقوة والإكراه تحت ضغوط لم يكن لأهلها وزعمائها الوطنيين قبل بمقاومتها، وأجبر هؤلاء الزعماء على توقيع أوراق ابتزاز - سماها الأوروبيون "معاهدات" لأنهم يحترمون القانون ـ وهي أوراق تدين الأوروبيين المستعمرين وتشينهم ولا تدين الأفارقة ولا تشينهم. ويكفي أن نعرف اليوم أن هذه المعاهدات كانت تنص - ونصوصها كتبها الأوروبيون طبعاً ـ على أن "تبقى هذه المعاهدة سارية إلى أن يبيد التراب ويشيب الغراب"!.
وقد وصف أحد زعماء القبائل التي كانت تسكن فيما يعرف الآن باسم (زيمبابوي) كيف استعمرت أرض آبائه فقال:"أرأيت كيف تقبض الحرباء على الذبابة؟ إنها تزحف خلفها حتى إذا اقتربت منها كفَّت عن الزحف والتنفس فترة، ثم تستأنف زحفها بطيئاً تقدم رجلاً أولاً ثم أخرى بعد حين، وعندما تكاد تلامس الذبابة تنقض عليها بلسانها وتختفي الذبابة... إن إنجلترا هي الحرباء وأنا الذبابة"!!
لقد كان الإفريقي، إذن، واعياً تمام الوعي لما تفعله به القوة الاستعمارية القادمة من أوروبا، وكان واعياً تمام الوعي لغايتها وأنها لا تريد إلا أن تبتلعه فتذهب بوجوده نفسه، كما تبتلع الحرباء الذبابة! وهو وعي يشهد بكذب المعلومات التي روجتها صناعة الإعلام الغربية عن جهل الأفارقة وتخلفهم ودونيتهم؛ وهي معلومات ظلت تروج وتبث في أذن الإفريقي وعقله ووعيه اليقظ لتدفعه إلى الخجل من ماضيه والتخلي عن واقعه والتحول إلى تابع ذليل لسيده الأوروبي.
ومع ذلك فقد قاوم الإفريقي هذا الاستعمار وأدواته السياسية والثقافية والإعلامية قرناً أو يزيد، وهو أمر يؤكد أن هذه القبائل والشعوب الإفريقية كانت تدرك مميزاتها وتحب هويتها حتى إنها ناضلت أكثر من مئة سنة لتستعيد حريتها.
عندئذ تحول الجهد الأوروبي من استعمار شعوب بكاملها إلى استتباع الزعامات التي تولت أمر هذه الشعوب بعد الاستقلال. وكان ذلك كافياً تماماً لتحقيق مآرب المستعمرين، فالتعامل مع شخص واحد يلبي جميع الطلبات الاستعمارية، ويرفع في داخل بلاده أجمل شعارات الاستقلال والحرية، أسهل كثيراً من التعامل مع شعب يقاوم الاستعمار ويقاتل في كل بقعة من أرضه ليتخلص منه. وعندما أبى بعض الزعماء الأفارقة - الذين يستحقون اسم الزعامة ـ أن ينصاعوا لاستعمار أشخاصهم الذي استبدله الأوروبيون باستعمار البلاد نفسها كان مصير أحدهم "باتريس لومومبا" أن اختطف وقتل في يناير 1961 ثم وضع جثمانه في حامض مذيب ليختفي تماماً من الوجود (كما كانت الحرباء تفعل مع الذبابة) وقتل الثاني "كوامي نكروما" مسموماً بعد أن دبر له انقلاب أطاح به وأعاد الحكم في بلده إلى من يستطيع التعامل مع الحضارة المتمدينة!
والذي فعله الاستعمار في هذا الشأن في إفريقيا يشرح لنا لماذا لا يستجيب الغرب، ولا تستجيب الولايات المتحدة ـ وارثة الاستعمار الأوروبي ـ إلى مطالب الوطنيين العرب والمسلمين في الشأن الديمقراطي، وفي شأن الحريات، وفي شأن حقوق الإنسان. إن الاستجابة لهذه المطالب تُصعِّبُ على المستعمرين ـ قدامى وجدداً ـ التعامل مع الشعوب التي يراد استعمارها والاستيلاء على خيراتها والهيمنة على قرارها السياسي وثروتها المادية والبشرية. بينما التعامل مع مستبد يدير شؤون شعبه بالحديد والنار، والسجون المفتوحة والمحاكم العسكرية والقوانين سيئة السمعة، ويغلق منظمات المجتمع المدني، ويمنع تكوين الأحزاب، ويُقّيدُ الحق في إصدار الصحف... التعامل مع مثل هذا المستبد في أي مجتمع يسهل على المستعمر أن يكون سيداً دائماً، ولا يجد له نداً أبداً. وهذه هي المعضلة التي يجب على النضال الوطني من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أن يجد لها حلاً.
لقد