في ذكرى فرصة كبيرة ضاعت
بموازاة المفاوضات الفلسطينيّة -الإسرائيليّة التي انطلقت في واشنطن، نتذكر فرصة السلام الكبرى التي أُجهضت قبل ثلاثة عقود، والتي بيّنت كم أنّ الشرق الأوسط غير مستعدّ لسلام كهذا. والحال أنّه مع توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979، وقعت المنطقة كلّها في دوّامة من الضياع. لكنْ لئن وُجد مع عبد الناصر استعداد عربيّ واسع لمجاراة ضدّيّته، لم يوجد مثل هذا الاستعداد لمحاكاة السادات، لا مصريّاً في سياساته الداخليّة، ولا عربيّاً في اتّجاهه إلى السلام.
ففي مصر نفسها حصلت تحرّكات مطلبيّة عماليّة وشعبيّة واسعة في يومي 18 و19 يناير 1977. وكانت هذه تتويجاً لتحرّكات أصغر شهدتها الأعوام 1972 و1973 و1975، مما عجّل بدفع السادات إلى الخيار السلميّ مع إسرائيل.
بيد أنّ عمليّة السلام التي دشّنها السادات بخطابه في مجلس الأمّة المصريّ، ثمّ بزيارته المفاجئة إلى القدس في نوفمبر 1977، حوّلت الأنظار في اتّجاه آخر. ففي مايو من ذاك العام كانت الانتخابات قد أوصلت إلى رئاسة الحكومة زعيم تكتل "ليكود" اليمينيّ مناحيم بيغن. وهذه كانت أول مرّة، منذ نشأة الدولة العبريّة، يخسر فيها حزب "العمل"، مؤسّس الدولة، موقعه القياديّ. وبالنظر إلى التكوين القوميّ المتطرّف لبيغن وتكتّله، ساد توقّع الأسوأ في العلاقات العربيّة -الاسرائيليّة. وهنا أيضاً تمرّد السادات على التوقّعات العاديّة.
هذا النهج وجد تتويجه في اتفاقي سلام كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978 ومن ثمّ المعاهدة المصريّة -الإسرائيليّة في 26 مارس 1979 برعاية أميركيّة، والتي كانت الحدث الأضخم في تاريخ المنطقة منذ بدء النزاع العربيّ الاسرائيليّ.
وكان ممّا له دلالته، على صعيد العلاقة بالغرب وتوظيف هذه العلاقة إيجابيّاً، أن الرئيس كارتر الذي رعى تلك العمليّة، كان أوّل رئيس أميركيّ يتحدّث منذ بداية عهده عام 1976 عن "وطن للفلسطينيّين"، وأنه خلال عمليّة التفاوض للوصول إلى معاهدة سلام، لم يُخفِ انحيازه إلى الجانب المصريّ في بعض المسائل الحسّاسة. وفي المقابل استقال وزيرا خارجية مصريّان، هما إسماعيل فهمي ومحمد إبراهيم كامل، احتجاجاً على نهج رئيسهما.
كان واضحاً أن انسحاب السادات إلى دور مصريّ متواضع عمل أملاه الواقع وضروراته، لا الأيديولوجيا الصاخبة. ومن هذا القبيل جاء السلام الذي أُرفق بتقديم معونات أميركيّة سخيّة لكلّ من مصر وإسرائيل. لكنّ مغادرة الصراع بعد الانسحاب الإسرائيليّ من الأراضي المصريّة التي احتُلّت عام 1967 لم تكن تعني، بالنسبة للقاهرة، مغادرة الاهتمام بشؤون المنطقة وبمحاولة تذليل النزاع الفلسطينيّ-الإسرائيليّ. فمصر لا يمكن أن تغضّ النظر عن هذه المسألة التي تقيم بجوارها. وهي منذ 1945، أي إبّان العهد الملكيّ، رعت إنشاء الجامعة العربيّة بالتنسيق مع السياسة البريطانيّة. فضلاً عن خوض مصر المَلكيّة، بطريقتها، لحرب 1948 ضد نشأة الدولة العبريّة.
هكذا جاء الشقّ الفلسطينيّ من كامب ديفيد، يقضي، ولو من غير تعهّدات ملزمة، بإنشاء سلطة حكم ذاتيّ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بما يقود إلى محادثات "الوضع النهائيّ" والتطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن 242. فالتصور المصريّ كان مؤدّاه أن السلام الثنائيّ ليس بديل السلام الشامل في الشرق الأوسط بل مقدّمته. لكنْ بطبيعة الحال كان يتعذّر على السادات، في عالم قائم على واقع الدول والسيادات الوطنيّة، أن يكسب على الجبهة الفلسطينيّة ما هو أكثر من تسجيل مبادىء عامّة قابلة للتطوير.
وتطوير كامب ديفيد باتّجاه سلام شامل هو ما كانت المعارضة العربيّة للمعاهدة قد جعلته مستحيلاً، بفعل الضدّيّة التي بلغتها. إلاّ أن الحدث المهمّ الآخر الذي ترتّبت عليه معانٍ كثيرة لاحقة، ينبع من الفارق بين الموقعين والسلوكين. فقد كان برلمان إسرائيل الطرف الذي وافق على المعاهدة، أما في مصر فرغم أنّها بدت شعبيّة في البداية، نظراً للربط الساذج بينها وبين خلاصيّة الازدهار الاقتصاديّ السريع، فإنّها ظلّت مشروعاً منبثقاً من مشيئة الحاكم وحده. هذا من غير أن ننسى ذاك التطوّر الكبير وما مثّله من مكسب احتياطيّ لمصر، وهو أن حكومة ليكوديّة هي التي وقّعت على السلام، أي أن كامب ديفيد قوّضت فكرة "إسرائيل الكبرى" بتوقيعٍ من بيغن.
أبعد ممّا عداه أن خروج مصر من الصراع بات يعني فراغ ذاك الصراع من مضمونه الاستراتيجيّ بوصفه تنافساً بين القاهرة وتل أبيب على النفوذ والمكانة الإقليميّين. أي أن ما كان نزاعاً عربيّاً- إسرائيليّاً صار نزاعاً فلسطينيّاً- إسرائيليّاً وسوريّاً- إسرائيليّاً، ثم منذ الثمانينيات سوريّاً- فلسطينيّاً كذلك.
وكما هو معلوم، قضى السادات بينما كان يحضر احتفالاً عسكريّاً بالذكرى الثامنة لحرب 1973، وكان قاتله ضابطاً إسلاميّاً شابّاً اسمه خالد الإسلامبولي. يومها لم ينتبه إلاّ قليلون إلى أنّ الاسلاميّين سيملؤون الفراغ الذي سيخلقه انهيار السياسة، خصوصاً أنّ إيران كانت قد أقامت، قبل عامين، نظامها الإسلاميّ.
وبقي المدهش في نظر مراقبين غربيّين أن الذي أعاد إلى مصر أرضها المحتلّة مات مقتولاً وشيّعته جنازة هزيلة، فيما عبد الناصر الذي خسر الأرض في عام 1967، كانت جنازته الجنازة الأكبر في التاريخ العربيّ الحديث. كذلك ظلّ لافتاً أن "المجتمع المدنيّ" المصريّ، لا سيّما الصحافيّين والمهنيّين عموماً، لم يواكبوا السلام، منذ البداية، بل عارضوه بقوة. وهذا فضلاً عن المعارضة العربيّة التي تجسّدت في مقاطعة مصر وإنشاء "جبهة الصمود والتصدّي" بُعيد قمّة بغداد الشهيرة.